البلاد خشية الملاحقة القضائية والحكم عليهم بالحجر والسجن وردّ المال إلى المصارف ، وبيع أموالهم الفائضة عن حوائجهم لسـداد ديونهم ، إذا كانوا مفلسين. وربما يتواطأ هؤلاء المتمولون مع بعض المسؤولين في البنوك للحصول على أموال كثيرة ، أكثر من طاقتهم واستحقاقهم ، وبلا ضمانات مادية ، وقد تكون منشآتهم منشآت وهمية ، كما قد يكون ثراؤهم مزيفًا . وعندما تنكشف ألاعيبهم ، ويفتضح فسادهم ، تلاحقهم السلطات ، وتسقط سمعتهم ، وتفلس منشآتهم ، وتتلف أموالهم ، وتضيع طاقاتهم وجهودهم في القيل والقال ، حتى تتراجع قواهم العقلية والجسمية، وتؤول إلى التلف والفناء ، وقد يسلط الله عليهم من يغتصب مالهم كما اغتصبوا مال الآخرين .
والحديث النبوي المذكور وإن كان متعلقًا بالقروض والديون ، إلا أنه قد تلحق به المضاربات ( = عمليات القراض ) ، والأمانات ، وسائر الحقوق المقومة بالمال ، وكل من يأخذ مالاً من الناس ، أو عملاً مقومًا بمال . فالناشرون الذين يأخذون أعمال المؤلفين بموجب عقود موقعة من الطرفين ، ويحوجونهم إلى المطالبة والملازمة ، ويماطلونهم في أداء الحقوق، أو يأكلونها ، أو يتلاعبون ويغشون ويدلسون ، إنما هم معرضون أيضًا لما يتعرض إليه أولئك المقترضون أو المدينون من تلف أموالهم وأعمالهم وأعراضهم وأبدانهم ، في الدنيا والآخرة .
ونتعلم من هذا الحديث ألا نكتفي بترك هؤلاء النصابين والدجالين إلى عقوبة الله في الدنيا والآخرة ، بل يجب علينا أن نحتاط في معاملتهم ، كي لا نقع في شراكهم ، فيمكن أن نوثق هذه المداينات بالكتابة والشهادة والكفالة والرهن ، وبالقضاء العادل ، وسرعة البت في الخصومات ، كي لا يفلت هؤلاء ومن معهم من العقوبة العاجلة . وقد يتم اللجوء إلى الضغط الاجتماعي عليهم ، والتشهير بهم، وتحذير الناس من معاملتهم ، حتى يعودوا إلى جادة الصدق والشرف والاستقامة . قال صلى الله عليه و سلم : " مطل الغني ظلم " ( متفق عليه ) ، وقال أيضًا : " ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته " ( صحيح البخاري 3 / 155 ) ، واللي : المماطلة، والـواجد: الغني . وقال أيضـًا : " إن لصاحب الحق مقـالاً " ( صحيح البخاري 3 / 155 ) ، أي إن للدائن مقالاً في حق مدينه ، إذا ماطل أو جحد .
لقد حذر الإسلام من التوسع في القروض والديون ، والإسراف فيها ، كما حذر من الاقتراض أو الاستدانة مع تبييت نية عدم الوفاء ، وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يستعيذ بالله من الدَّين ( أو المغرم ) ، وأخبرنا بأن من مات شهيدًا يغفر له كل شيء، إلا الدين ، فالدين لا يسقط عنه برغم أنه في أعلى منـزلة ، وهي منـزلة الشهداء . وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يصلي على من مات وعليه دين ، إلا أن توفى ديونه منه أو من غيره ، أو يسقطها الدائنون عنه ، أو أن يقتسموها قسمة غرماء ، أي يأخذ كل منهم من المال المتاح على حسب دَينه . ومن مات وترك تركة مالية ، وعليه ديون ، وفيت ديونه من التركة قبل أن يقتسمها الوارثون ، ومن مات وعليه دين، ولم يترك مالاً ، لم يجبر الورثة على وفاء ديونه ، ويمكن أن توفى ديونه من مصـرف الغـارمين في الزكاة ، إذا اتسـعت لها أموال الزكاة ، وكان غرمه (دينه ) في غير فساد ولا إسراف . فليتنبه إلى هذا الدائنون ، ولاسيما إذا لم يكونوا أثرياء ، كحالة المدخرين المستثمرين من ذوي الدخول المحدودة ، ذلك لأن المدينين قد يعجزون عن الوفاء ، أو ينكرون ، أو يجحدون ، أو يماطلون ، وربما ماتوا ولم يُسأل الورثة عن ديونهم ، إلا في حدود ما ترك لهم مورثوهم من أموال ، فالدائن هو المسؤول أخيرًا عن الدين ، وقد لا يحصِّـل منه شيئًا ، أو يحصِّـل منه بعضه ، متزاحمًا مع سائر الغرماء (الدائنين) ، ويقدَّم عليهم إذا كان دينه موثقًا برهن .
ولا يتم الحديث عن وفاء القرض إلا بالحديث أيضًا عن المماطلة . وقد استوفيت الكلام عنها في موضع آخر ( بيع التقسيط ص 131 وما بعدها ) .
وتحدث الباحث أيضًا ، في المبحث الثاني ، عن قرض المنافع ، وكنت أتمنى لو أوضحه بمثال ، إذن لكان هذا أنفع للقارئ الاقتصادي غير المتخصص في الفقه . ويمثل ابن تيمية لقرض المنافع بأن : " يحصد معه يومًا ، ويحصد معه الآخر يومًا ، أو يسكنه دارًا ليسـكنه الآخر بدلها " ( الاختيارات الفقهية ص 131، وكشاف القناع 3/314 ) .
ولدى الكلام عن تغير العملة ، عرَّف الباحث ، في ورقته هذه ، وفي رسالته ( ص 50 ) ، التضخم بتعريفين : الأول تعريف الماليين ، والآخر تعريف الاقتصاديين . ونقل التعريف الأول عن كتاب " التضخم المالي " لغازي عناية ، ونقل التعريف الآخر عن كتاب " تمويل التنمية الاقتصادية " للمؤلف نفسه . ولم أجد فرقًا بين التعريفين . هل الفرق أن التعريف الاقتصادي يختص بالعوامل الهيكلية ، والتعريف المالي يختص بالعوامل النقدية ؟ لم يوضح .
وذكر من بين أسباب التضخم : الإنفاق العام على الصحة والتعليم ( انظر أيضًا رسالته ص 54 ) . وهذا غير مسلم إذا كان هذا الإنفاق مجديًا ذا أثر فعال على كل منهما ، ولاسيما في الأجل غير القصير .
ويدعو الباحث المقترض إلى وفاء القرض بزيادة ، غير مشروطة ، كي لا ينقطع سبيل القرض والإحسان . لكن ماذا لو صار هذا عادة وعرفًا ؟ ألا يقول الفقهاء : المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا ؟
وفي المبحث الثالث ، تكلم الباحث عن النذر أولاً ، ثم عن صلته بتغير قيمة العملة . ففهمت من هذا أنه يريد أن تكون الورقة في وفاء القرض والنذر والمهر ، في ظل تغير قيمة العملة ، ولكنه ربما لم يحسن اختيار عنوان بحثه . وربما كان من المناسب :
1 – إما أن يهجر الكلام عن النذور والمهور ، لكي تتطابق الورقة مع عنوانها ؛
2 – وإما أن يغير عنوان الورقة ليكون مثلاً : أثر تغير قيمة العملة في وفاء القروض والنذور والمهور .
وفي المبحث الثاني ، تكلم عن القرض وقال : " عقد القرض هو عقد إرفاق، لأن القرض في أصله عقد تبرع " . وكأنه يقول في هذه العبارة : " عقد القرض عقد إرفاق لأنه عقد إرفاق " ، وكان من الواجب أن يقول : " عقد القرض هو عقد إرفاق أو تبرع " . ثم قال: " القرض بهذا المعنى يتضمن معنيين اثنين :
معنى الإعارة ، لما فيه من التبرع ابتداءً ؛