على الرغم من الزخم الإعلامي الذي حظيت به الحركة الإسلامية ، خاصة في الربع قرن الأخير من القرن العشرين ، فإنه انحسر تقريبا عن الأستاذ يوسف كمال محمد حيا وميتا ، رغم كونه واحدا من أهم أعمدة الاقتصاد الإسلامي .
فلم يكن الرجل جامعا للنصوص ومصنفا ومبوبا لها كما فعل آخرون ممن كتبوا في هذه المساحة ولكنه امتلك رؤية واضحة وأعمل عقله وعلمه في إطار منهج آمن به لحدود العقل ومعطيات الوحي . فكان مشروعه الفكري الذي ضم نحو أربعة عشر كتابا في الاقتصاد الإسلامي وثلاثة كتب في الأعمال الفكرية ، وواحد وعشرين كتابا في تفسيره الحضاري للقرآن الكريم الذي اختتم به أعماله العلمية .
ولم يعرف قيمة الرجل إلا مَن هم في مجال البحث والدراسة ، فكان أساتذة الجامعات يدلون عليه ليكون عونا للطلاب في توجيههم وإعدادهم لرسائل الماجستير والدكتوراة في الاقتصاد الإسلامي .
المولد والنشأة :
ولد يوسف كمال بن محمد بن يوسف بمدينة الشهداء في محافظة المنوفية بمصر ، في التاسع من شهر يوليو عام 1932 ، وكان أول الأبناء الثلاثة لأسرة متوسطة حرصت شأنها شأن الأسر المصرية الريفية على تعليم أبنائها القيم والأخلاق والمحافظة على الصلاة . وقد اعتنى والده المزارع بتعليمه؛ إذ التحق - بعد أن نال الشهادة الثانوية عام 1951 - بجامعة القاهرة وتخرج فيها حاصلا على بكالوريوس التجارة في عام 1955 ليكون ترتيبه الأول على دفعته في شعبة الاقتصاد . وقد حصل على جائزتين في نفس العام ، رشحته لهما الكلية : الأولى تكريما له لحصوله على أكبر مجموع في مادة الاقتصاد ، أما الثانية فكانت لأنبغ طالب في مادة الاقتصاد ، كما رشح من قبل الكلية لبعثة إلى الخارج ، ولكن حال دونها اعتقاله بعد تخرجه بقليل .
محنة الاعتقال :
كان يوسف كمال من المعجبين بشخصية مرشد الإخوان الأستاذ حسن البنا فانضم لإخوان كلية التجارة في 1951 وهو العام الذي شهد ما يشبه الثورة والحركة الدائبة للحركة الطلابية ضد الاحتلال الإنجليزي ، فأقيمت معسكرات الجهاد في كل جامعات مصر ، حيث انتظم هو كواحد من هؤلاء الشباب الذين التحقوا في صفوف التدريب استعدادا للجهاد . وأذن الله عز وجل أن يرحل الاحتلال الإنجليزي في عام 1952 ، ولكن تعلق يوسف كمال بالجهاد كان شديدا ، فشارك في معسكرات الجهاد على ضفاف القناة عام 1953 ، وحين وقع العدوان الثلاثي 1956 كتب من خلف القضبان إلى والده وأسرته يستحثهم على الجهاد وعن أمنيته أن يكون هو وإخوانه خارج السجن للمشاركة في الجهاد .
لم يكن دور يوسف كمال فقط في الجامعة هو المشاركة في معسكرات الجهاد ، ولكنه كان أشبه بمنظر طلاب الجامعة لمواجهة الفكر الشيوعي الذي بدأ في التسرب إلى الجامعة ، وقد أخذت هذه المواجهة صور المناقشات والمناظرات وكشف العيوب ونقاط الضعف في الفكر الشيوعي .
في عام 1954 شهدت جماعة الإخوان المسلمين حملة من الاعتقالات والمحاكمات من قبل ضباط ثورة يوليو ، وشهدت العديد من أسر المعتقلين ارتباكا في حياتها المعيشية ، فأخذت مجموعة من الإخوان على عاتقها جمع التبرعات وتقديم العون لهذه الأسر ، وكان يوسف كمال واحدا من هؤلاء الذين جندوا أنفسهم لهذا الأمر؛ فاعتقل في 15/8/1955 فيما سمي بقضية " تنظيم التمويل " فمكث في السجن منذ ذلك التاريخ حتى 14 نوفمبر 1964 ، أي ما يزيد عن 9 سنوات بشهرين ، وحين خرج لم ينعم بنسيم الحرية أكثر من 9 أشهر فدخل السجن ثانية مع شهر أغسطس من عام 1965 ليمكث به حتى أكتوبر 1968 ، ثم عاد إليه ثالثة في عام 1981 ليمضي فيه 4 أشهر
الدكتوراة في السجن
تميز يوسف كمال بالمحافظة على الوقت واستثماره في القراءة ، في الأوقات التي كان يسمح له فيها بذلك في فترة الاعتقال ، فكان يمضي معظم الوقت المسموح به في المكتبة ، ويعرف عنه أنه كان يجمع الورق الملقى على الأرض في ساحة المعتقل ، فإذا ما كانت الأوراق فارغة استغلها في الكتابة وإن كانت مطبوعة كانت فرصة للقراءة والاطلاع ، وقد كتب أنه اطلع من أجل مناقشته في بحث لنيل درجة الدكتوراة في مطلع الستينيات على نحو 500 كتاب بين العربية والإنجليزية في مجال الاقتصاد والفلسفة والتاريخ والفقه والتفسير والحديث ، وكان رحمه الله قد وفق لإنجاز أول أعماله البحثية بعنوان " الأمة الإسلامية . . أصولها الفلسفية والاقتصادية " ، وقد وقع هذا البحث في 1000 صفحة مكتوبة بخط اليد . وفي عام 1963 خاطب الجامعات المصرية لمناقشة بحثه هذا لنيل درجة الدكتوراة ، أسوة بمنح بعض خريجي كلية العلوم وقتها درجة الدكتوراة دون حصولهم على درجة الماجستير فرفضت كل الجامعات حينها
وكان قد حرص قبل إقدامه على هذه الخطوة على أن يمر بالخطوات الإجرائية بالجامعات للانتظام في سلك الدراسات العليا؛ فكتب إلى كلية التجارة جامعة القاهرة في أكتوبر من عام 1958 للالتحاق بالدراسات العليا وهو خلف القضبان ، فأرسلت إليه الكلية بعدم قبوله بسبب استحالة المشاركة في التدريبات العملية التي تتطلبها الدراسة في هذه المرحلة .
ولكن بعد أن قرأ في إحدى الجرائد عن منح بعض طلاب كلية العلوم درجة الدكتوراة شجعه ذلك على تقديم بحثه الذي أنجزه داخل السجن للمساواة بأمثاله؛ فردت كلية المعاملات والإدارة بجامعة الأزهر - كلية التجارة حاليا - بما نصه : " والكلية مع تقديرها الكامل للمجهود الذي بذل في إعداد البحث لا تستطيع أن تقوم بأعمال مخالفة للقوانين واللوائح؛ إذ لا يجوز مناقشة بحث بمرحلة الماجستير أو الدكتوراة إلا بعد إجراءات معينة " . وأيضا كان رد كلية التجارة جامعة عين شمس بأن لوائح الكلية لا تسمح بذلك . وقد أضاف إلى إنجاز هذا البحث وقراءاته المتعددة حفظه للقرآن الكريم داخل السجن