وقد أحسن د. عبد الرحمن الأطرم حين فرق بين السمسرة والوكالة ، وبين أن حقيقة كل منهما مختلفة عن الأخرى . فالأولى عقد للدلالة أو التقريب بين متعاقدين دون نيابة عن أحدهما ، بينما الوكالة عقد يستنيب فيه جائز التصرف مثله فيما تدخله الوكالة . فالسمسار لا ينوب عن موسطه في إجراء العقد وإتمام الصفقة بمجرد عقد الوساطة ، لأن معنى السمسرة لا يفيد ذلك . ولا يملك السمسار إمضاء العقد إلا إذا وكله موسطه بهذا العمل ، فيكون جامعًا بين الوساطة والوكالة . واستشهد الباحث على ذلك بقول الإبياني الفقيه المالكي حين سئل عن السمسار يبيع الثوب قبل أن يشاور صاحبه ، فقال : "لا يجوز البيع إلا بإذن صاحبه ، إلا أن يكون صاحبه فوض إليه ذلك" .
تصنيف أنواع الوساطة بحسب طبيعة العقد الذي تعتمد عليه
6 ـ الوساطة المالية
حتى نتمكن من تحديد طبيعة الوساطة المالية ، ينبغي أن نلاحظ أن الوسيط المالي ، كما يدل عليه اسمه ، يتوسط بين طرفين : ذوي الفائض وذوي العجز . فهو يتولى توجيه الفائض من الثروة لدى الفئة الأولى إلى الأكثر حاجة لها من أفراد الفئة الثانية. ثم هو يربح من خلال هذا التوجيه. فمقصود الوسيط المالي إذن هو إدارة أموال ذوي الفائض ، وليس تملكها . وحينئذ فمن مصلحة الوسيط بناء الوساطة على عقد نيابة ، تقتصر مخاطره على عمل الوسيط ، ولا يلجأ إلى عقد ضمان والحال هذه ، لأن الوسيط ، كما هو شأن أي وحدة اقتصادية ، يطمح إلى الاسترباح بأدنى حد ممكن من المخاطرة . أما في جانب توظيف الأموال ، فبناءً على نفس المنطق السابق فإن عقود الأمانة صالحة لهذا الجانب . فهي لا تحمّل الوسيط مخاطر أكثر مما يلتزم به تجاه ذوي الفائض. كما أن المخاطر التي يضمنها تخلق الحوافز الكافية للوسيط للتفاني في العمل وبذل الجهد في الحصول على رضا المدخرين . وهذا يعني أن عقود الشركة والمضاربة والوكالة كافية لتنظيم علاقة الوسيط بالموسَط لديه .
فعقود الأمانة تحقق للوسيط ما يطمح إليه من تجنب المخاطر التي لا تتصل بعمله ولا تدخل تحت سيطرته ، كالجوائح أو الإتلاف بسبب طرف ثالث . أما مخاطر التعدي أو التفريط فهو يتحملها بطبيعة الحال ، لأنها تحت سيطرته ، وبموجبها يستحق الربح على وساطته .
7 ـ المصارف الربوية
ذكرنا آنفا أن الوسيط المالي ليس من مصلحته ، باعتباره وسيطًا ، أن يضمن أموال ذوي الفائض ، لأن مهمته أساسًا تتركز في توجيه هذه الأموال إلى حيث الربح ، وليس في تملكها . وبذلك يتضح أن أسلوب المصارف الربوية (وينحو نحوها في ذلك بعض المصارف الإسلامية اليوم) في جمع أموال المودعين من خلال اقتراضها ، أسلوب غير كفؤ ، لأنها بذلك تحمل نفسها مخاطر لا داعي لها . ولهذا السبب يضطر المصرف التقليدي إلى أن يوظف الأموال من خلال الإقراض . لأنه بذلك يحصل على ضمان من المقترضين مقابل ضمان المصرف نفسه للمودعين . ولكن ذلك يخلق مخاطر جديدة للمصرف الربوي ، منشؤها تفاوت آجال ودائع المصرف عن آجال القروض التي يمنحها للمقترضين . فآلية الوساطة المالية المبنية على الضمان (المداينة) آلية غير كفؤة وتغرق المصرف في مخاطر متعددة ، وتكلفه الكثير في سبيل إدارة هذه المخاطر وتقليلها .
ومما يزيد الأمر سوءا أن البنك الربوي يجنح تلقائيا إلى المقامرة . والمقامرة وصف لمشروع يعتمد فيه الربح المتوقع على المخاطر غير الخاضعة للسيطرة . ذلك أن البنك لا يساهم في إدارة المشروع الذي يموله فعليا ، ولذلك فلن يساهم في تخفيض المخاطر الإيجابية التي يتعرض لها ، بل يكل ذلك إلى مالك المشروع . لذا فهو يفضل تمويل المشروعات "الكفؤة" ، أي التي لا تتعرض لمخاطر إيجابية (أي قابلة للتحكم) ، وتقتصر مخاطرها على النوع السلبي (غير القابلة للتحكم) . بمعنى أن البنك لا يريد مشروعًا لم يستطع صاحبه ، من وجهة نظر البنك ، أن يقلل كل ما يمكنه من مخاطره . فلو تقدم اثنان : أحدهما سمسار خبير في سوق الأسهم Broker، والآخر مبدع أو رائد Entrepreneur يحمل مشروع إنتاج منتَج جديد لكنه لا يملك الخبرة الإدارية الكافية ، فإن البنك سيمول الأول دون الثاني . السبب أن السمسار يستطيع أن يقلل المخاطر الداخلة تحت سيطرته إلى الحد الأدنى ، لكن المبدع لن يستطيع ذلك لوحده .
وعليه فإن البنك إذا أراد أن يزيد من ربحيته فلا بد أن يزيد من درجة المخاطرة السلبية ، بناءً على قاعدة الارتباط الإيجابي بين الخطر والعائد . ولكن المخاطر السلبية غير خاضعة للسيطرة . أي أن البنك إذا أراد أن يزيد من ربحيته فلا بد أن يقامر .
وهنا يبرز الفرق بين المصرفيBanker والممول الشريك Venture Capitalist فالأول لا يبحث عن المشاريع غير الكفؤة . بينما الثاني ربما لا يبحث إلا عنها . لأنه من خلال مشاركته للمشروع سوف يقلل من مخاطره الخاضعة للسيطرة ، ومن ثم يزيد من ربحيته . أي أن الممول إذا أراد أن يزيد من ربحيته فسوف يزيد من درجة المخاطرة الخاضعة للسيطرة ، ويزيد من ثم جهده لتخفيض هذه المخاطرة . أما إذا كان سيزيد من الخطر السلبي ، فهذا معناه أنه يقامر بأموال المستثمرين .
وهناك جانب آخر لا يقل سوءًا عما تقدم . فالدَين بطبيعته يفرض على الدائن أن يتوجه لذوي اليسار والغنى لإقراضهم ، نظرا لأنهم الأقدر على السداد . وهذا يعني أن وظيفة الوسيط المالي ، وهي توجيه الثروة من ذوي الفائض إلى الأكثر حاجة لها من ذوي العجز ، قد اختلت . فصار الوسيط بدلاً من ذلك يوجه الفائض إلى الأقل حاجة ، بل ربما كان المقترض ليس من ذوي العجز أصلا . فتكون النتيجة هي أن الوسيط صار يخدم ذوي الفائض فحسب ، وتصبح الثروة حينئذ { ... دُولةً بين الأغنياء ... } من الآية 7 من سورة الحشر . وإذا أخذنا في الاعتبار آلية خلق النقود لدى المصارف، فربما انعكس دور الوسيط ليصبح توجيه الثروة من ذوي العجز إلى ذوي الفائض ، ومناقشة هذه قضية لها مقام آخر .
ونظرا لانخفاض كفاءة هذا النمط من الوساطة وارتفاع مخاطرها نجد أنها آخذة في الانحسار. وهناك دراسات جادة اليوم في الغرب لإعادة هيكلة المصارف ، وصياغتها بصورة أكثر كفاءة واستقرارا . والمصارف التقليدية حاليا لا تعتمد في ربحيتها على هذه الوساطة ، بل على أجور العمليات المصرفية العادية ، أو الخارجة عن قائمة الميزانية off balance sheet items ، وهي عمليات تقوم في الغالب على عقد الوكالة . وهذا الاتجاه يعزز القول أن الوساطة المبنية على النيابة أكثر كفاءة ، كما تقدم . والذي أدى بالمصارف إلى هذا الوضع أنها لم تنشأ منذ البداية على اعتبار أنها مؤسسات وساطة . بل ، كما هو معلوم ، نشأت لمجرد حفظ ودائع الناس. ثم اكتشف الصيارفة أنه يمكنهم استغلال أموال المودعين ، دون علمهم وسرًا في أول الأمر . ثم استمروا ذلك حتى أصبح اليوم حقيقة معلنة .
8 ـ المداينة في جانب التوظيف
تطرقنا إلى نوعي الوساطة : الإسلامية والتقليدية ، وأن الأول يعتمد على النيابة في طرفي الوساطة ، والثاني يعتمد على المداينة في الطرفين . وقد ينشأ سؤال : ماذا إذا كانت الوساطة قائمة على النيابة في جانب تعبئة الموارد ، لكنها قائمة على المداينة في جانب التوظيف ؟
قد يبدو لأول وهلة أن المداينة ، طالما كانت عقد ضمان ، فهي تلائم الوسيط في توظيف الأموال ، نظرًا لأن المدين سيضمن المال ضمانًا مطلقًا ، وهذا يخفف من المخاطر التي يتعرض لها الوسيط . وليس هناك ما يمنع من المداينة على أنها جزء من محفظة استثمارية ، لكن أن تكون هي الأساس والغالب يستدعي الأخذ في الاعتبار جوانب أخرى .
فالعائد المتوقع من التمويل بالائتمان ، كما هو معلوم ، أقل من عائد المضاربة أو المشاركة، تبعا لقانون الارتباط الإيجابي بين الخطر والعائد . ولذلك فإن الوسيط الذي يجمع المدخرات من خلال المضاربة ثم يوظفها بالمداينة ، كمن يبني عمارة متعددة الأدوار ، ثم لا يؤجر منها إلا دورًا أو دورين . فالوسيط المضارب لديه القدرة لتحمل مخاطر المضاربة (الثانية) أو المشاركة . فإذا عطل هذه القدرة ، سيخسر في مقابلها من مستوى العائد الذي سيحصل عليه ، ويكون عمل الوسيط حينئذ غير كفؤ . ولهذا يقل في الاقتصادات الرأسمالية أن توجد مؤسسة مالية تحشد المدخرات من خلال مضاربة ثم توظفها بصورة رئيسة من خلال الإقراض .
وهناك مفاسد أخرى ، لكنها ترتبط بشكل وطبيعة المداينة . فالمداينة قد تكون إقراضًا للنقود ، وحينئذ فالعائد عليها هو الربا بعينه ، وهذا هو مجال عمل المصارف الربوية ، وقد تقدم الحديث عنها . وقد تكون من خلال البيع الآجل ، على نحو ما يجري في المصارف الإسلامية اليوم من خلال عقد المرابحة ونحوه . وسنفرد الحديث عن المرابحة لأهميته .
9 ـ المرابحة
المرابحة هي صيغة للتوسط من خلال المداينة . فيستخدم الوسيط أموال المدخرين لشراء سلعة حاضرًا ثم يبيعها بأجل (دَينا ) للموسط لديه، بهدف ربح الفرق بين السعر العاجل والآجل .
أولعت المصارف الإسلامية بالمرابحة . فما هو السبب ؟ وما مدى كفاءة هذا النوع من التمويل بالمقاييس المذكورة آنفا ؟أما السبب فلأن المصارف الإسلامية ، بالرغم من أنها بدأت من منطلق مغاير تماما لذلك الذي سارت عليه المصارف الربوية ، إلا أنها صارت تنهج منهجا مشابها من حيث ضمان أموال الودائع . فهي مع الوقت صارت ترى أنها نفسها منافس للمصارف التقليدية التي تضمن للمودعين أموالهم ، وتحقق لهم قدرا عاليا من السيولة. وبالرغم من أن كثيرا من المصارف الإسلامية تعلن أنها تضارب بأموال المودعين ، لكن العقلية المصرفية تظل مهيمنة على إدارات هذه المصارف ، غالبا بسبب الخبرة