المصارف الإسلامية : المبدأ والتصور والمستقبل
المستخلص : تؤكد الورقة على دور المصارف الإسلامية كوسيط مالي وعلى أهمية الوساطة المالية للمجتمع , وتبرهن على أن دخول المصارف الإسلامية مباشرة في نشاطات التجارة والصناعة والزراعة ... الخ لا جدوى منه لأنه يعني أنها تترك وظيفة الوساطة المالية لغيرها . ثم تتعرض الورقة للوساطة المالية غبر الخالصة ( وهي تتم حاليا من خلال العقود الإسلامية التقليدية كالبيع بثمن آجل والسلم والاستصناع والإجارة) وترى أنها في صالح المصارف الإسلامية إذا كانت بطريقة " المضارب يضارب " بدون أن تلجأ تلك المصارف إلى الخوض في المخاطر المتعلقة بالتجارة أو الصناعة ... الخ . وترى الورقة أن المحافظة على الوساطة المالية هو أمر تقتضيه المصلحة العامة التي تقتضي أيضا التعاون بين المصارف الإسلامية و تحسين الإجراءات المحاسبية .
جمال الدين عطية
نحو فهم نظام البنوك الإسلامية
تصنيف
هناك أمر يلزم توضيحه، وهو أن المؤسسات التي نتحدث عنها باسم البنوك الإسلامية أو بيوت التمويل يمكن تصنيفها ـ من حيث إطارها القانوني ـ إلى المجموعات التالية:
المجموع الأولى: وتضم معظم هذه المؤسسات، وهي تلك التي نشأت في بلاد إسلامية تسود فيها النظم المصرفية التقليدية، وتنظمها قوانين مصرفية على النمط الغربي، وقد نشأت هذه البنوك بمقتضى قوانين خاصة أعفتها من قواعد النظام المصرفي السائد وقوانينه، بل ومن اشراف البنوك المركزية أو سلطات الرقابة على المصارف.
المجموع الثانية:وتضم المؤسسات التي توجد في بلاد إسلامية قامت بتغيير نظامها المصرفي كلياً إلى النظام الإسلامي كباكستان وإيران والسودان مؤخراً، أو جزئياً بالسماح لبيوت التمويل (دون تسميتها بالإسلامية) كتركيا مؤخراً.
وقد صدرت في كل من هذه الدول قوانين خاصة بتنظيم هذه المؤسسات المصرفية، لعل أكثرها تفصيلاً وتطوراً هي القوانين واللوائح التي صدرت في الباكستان لهذا الغرض.
المجموعة الثالثة: وتضم حتى الآن بنكاً واحداً هو المصرف الإسلامي الدولي في الدانمرك حيث سمح له بممارسة أنشطة البنوك الإسلامية دون أي إعفاء من القوانين المصرفية في الدانمرك، وهو بذلك تجربة رائدة لاثبات إمكان ممارسة النشاط المصرفي وفقاً للشريعة الإسلامية وللقوانين المصرفية التقليدية في نفس الوقت.
ولا يخفى أن هذا التنوع في الإطار القانوني الذي يحكم البنوك الإسلامية يؤدي إلى التنوع في أنظمتها وطرق تعاملها.
كما أن اختلاف الرأي في فهم الشريعة الإسلامية قد أدى كذلك إلى تطبيقات متنوعة وليس تطبيقاً واحداً للمبادئ الإسلامية في المعاملات المصرفية.
وهذا التنوع بسببه المشار إليهما ما يثري تجربة البنوك الإسلامية ويفتح أمامها العديد من الصيغ والأساليب، ولا يعتبر كما قد يظن البعض نقطة سلبية وإن كان بطبيعة الحال مما يزيد صعوبة الفهم لغير المطلعين على نظم وأساليب هذه المؤسسات.
الأصول
لعله من المناسب كذلك قبل الدخول في التفاصيل ـ وحتى نتهيأ نفسياً وفكرياً لفهمها ـ أن نلقي بعض الضوء على الفلسفة الكامنة وراء هذا النظام الجديد:
الحقيقة الأولى: أن الفكرة الأساسية ليست جديدة فقد حرم الربا فلاسفة الرومان كشيشرون واليونان كأفلاطون (في كتابه الجمهورية) وأرسطو (في كتابه السياسة). وحرمتها اليهودية فقد ورد في سفر التثنية 23: 19،20 "لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة أو ربا شيء مما يقرض بربا ـ للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا". وفي سفر الخروج 22: 25 "أن أقرضت فضة لشعبي الفقير.. فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا".
وفي سفر اللاويين 37:36:35:25 "وإذا افتقر أخوك، وقصرت يده عندك، فاعضده، غريباً أو مستوطناً، فيعيش معك، لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة، بل أخش إلهك، فيعيش أخوك معك، فضتك لا تعطه بالربا، وطعامك لا تعطه بالمرابحة.
ورغم هذا التحريم فقد تعامل اليهود فيما بينهم بالربا، حتى جاء المسيح فطردهم من الهيكل عندما دخله، إذ ورد في انجيل متى 21: 12،13 "ودخل يسوع إلى هيكل الله، وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، وقال لهم:
مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعي، وانتم جعلتموه مغارة لصوص.
بل ذهبت تعاليم المسيح إلى ترك أصل القرض للمقترض (متى 42:5، لوقا 6: 30،34،35) وقد أكد توماس الأكويني على تحريم المسيحية للربا كما فعل ذلك مارتن لوثر الذي الحق بالربا كثيراً من البيوع الربوية.
الحقيقة الثانية: ان الربا المحرم في الإسلام على نوعين:
نوع هو الزيادة في الدين مقابل الأجل في السداد، وهذا هو الربا الأصلي المحرم لذاته والذي كان موجوداً في الجاهلية ويسمى ربا الديون.
ونوع حرم لا لذاته ولكن لأنه يفتح باباً إلى الربا الأصلي المحرم لذاته أو لانه يؤدي إلى الجهالة والغبن اللذين يأباهما الإسلام، وتحرمهما نصوص أخرى تحريماً أصلياً ويسمى ربا البيوع.
وهذا النوع الأخير ينقسم بدوره إلى قسمين ربا النساء وربا الفضل وتضمهما أحاديث تحريم الربا في الأصناف الستة: الذهب والفضة والقمح والشعير والملح والتمر، ففي كل صنف من هذه الأصناف يحرم مبادلة صنف بصنفه إلا مع التساوي والتقابض.
أما إذا كانت المبادلة بين صنفين مختلفين أبيح عدم التساوي لكن ظل شرط التقابض قائماً.
والحكمة واضحة في تخصيص هذه الأصناف بهذه القيود ففي الصنفين الذهب والفضة ـ يبرز معنى التأكيد على دورهما النقدي (والتقليل من دورهما كسلعة) وبهذا الاعتبار فلا تستحق النقود عائداً بمفردها لأن وظيفتها المبادلة مع السلع والخدمات التي هي محل الإنتاج المنتج للربح.
أما باقي الأصناف الأربعة الأخرى فان اشتراط التساوي عند تبادلها يدفع إلى توسيط النقود منعاً للجهالة والغبن.
أما اشتراط التقابض ـ فلأنها قوت الناس الأساسي لحياتهم ـ يدفع إلى حصر التعامل التجاري فيها للقادر على الدفع الفوري، أما غير القادر فإن كان عجزه مؤقتاً فسبيله القرض الحسن وإن كان عجزه دائماً فواجب المجتمع افراداً أو حكومة توفير الحد الأدنى الكريم لمعاشه.
الحقيقة الثالثة: أن الإسلام بهذه النصوص القاطعة لم يترك مجالاً للكسب على النقود إلاّ بالمخاطرة في الإنتاج، ودفعاً للناس إلى هذه المخاطرة كانت الزكاة ـ إلى جانب اسهامها في سد حاجة المحتاجين ـ حافزاً لصاحب المال إلى دفع ماله إلى ميدان الاستثمار حتى لا تأكله الزكاة (وهي 2/21% من رأس المال) إذا ظل راكداً بعيداً عن مجال الإنتاج المثمر.
فالنبي الشديد عن الاستثمار بالربا، بالزكاة كحافز على عدم ترك المال دون استثمار يتغير موقف صاحب المال من سلبية المستثمر بالربا الذي لا يعبأ بكيفية استخدام أمواله طالما ضمن الربا المتفق عليه إلى إيجابية المستثمر الذي يخاطر بماله ويحرص بالتالي على اختيار مجال استثماره وعلى متابعته حتى يحقق غرضه، وبذلك يؤدي أمانة هذا المال الذي استخلفه الله فيه.
وفي اختيار المستثمر للمجال الذي يستثمر فيه ماله ومتابعته لهذا الاستثمار يضع الإسلام له من المعالم والارشادات ما يجعله يوجه ماله توجيهاً لا يقتصر على مبلغ الربح الذي يحققه له فحسب وانما يراعي كذلك تحاشي المحرمات بجميع أنواعها من ناحية، ومن ناحية أخرى أداء المال لوظيفته الاجتماعية.
وبهذه الاعتبارات مجتمعة يأخذ المال مكانه الطبيعي أداة في يد الإنسان لخدمة القيم الإنسانية لا سيداً يتحكم في الإنسان وإلهاً يعبد من دون الله.
الموارد
ونبحث هنا بعض المسائل المتعلقة بالودائع في البنوك الإسلامية.
1_ والودائع في البنوك الإسلامية على نوعين:
أ_ الحسابات الجارية: وهذه تضمنها البنوك الإسلامية كما هو الشأن في البنوك الأخرى ولا تستحق من حيث المبدأ أي عائد كما لا تتحمل أي خسارة، وانما يجوز للبنك ـ دون شرط مسبق ـ ان يمنح أصحابها أي جوائز أو امتيازات أو تسهيلات. وتمارس بعض البنوك الإسلامية هذا الأمر، كما نصت عليه صراحة المادة السادسة من قانون النظام المصرفي الإسلامي في إيران.
ب_ والودائع لأجل ـ بهذه الصفة ـ تختلف اختلافا جذرياً عن مثيلاتها في البنوك الأخرى حيث تضمن البنوك أصل الوديعة والفائدة عليها.
أما في البنوك الإسلامية، فهي لا تضمن ـ نظرياً ـ لا أصل الوديعة ولا عائداً محدداً عنها.
والبنوك الإسلامية ـ بهذه الطريقة ـ لا تقوم كطرف أصيل في العلاقة مع كل من المودعين والمستخدمين للأموال، وإنما تقوم بدور الوكيل عن المودعين في مواجهة المستخدمين للأموال، وهذه الوكالة على نوعين:
أحدهما: وكالة فيها تفويض من المودعين باستثمار الودائع في أي مشروع، وهو ما يسمى بالودائع العامة حيث تقوم البنوك الإسلامية بالاستثمار مع العديد من مستخدمي الأموال ويضم هذه الودائع العامة وعاء تصب فيه أرباح هذه الاستثمارات التي يجري بالتالي توزيعها على المودعين بنظام النمر (أي المبلغ مضروباً في المدة) بعد استقطاع حصة البنك مقابل الوكالة أو الإشراف.
والثاني: وكالة فيها تقييد من المودعين باستثمار ودائعهم في مشروعات محددة يقومون بدراستها والموافقة عليها وتحمل مخاطرها وتعود إليهم أرباحها بعد استقطاع حصة البنك مقابل الوكالة والإشراف، وهذا ما يسمى في مصطلح البنوك الإسلامية بالودائع المخصصة.
ومن الواضح أن هذين النوعين من الودائع ـ خاصة النوع الثاني ـ يقوم فيه البنك بالوظيفة المسماة في المصطلح المصرفي بأمناء الاستثمار FiduciaryFunction كما أن من المسلم به أن المودع ـ في الصورتين ـ عالم وموافق على المخاطر التي تتعرض لها وديعته بل أن هذا المبدأ هو ما يجعله يقبل على إيداع أمواله في هذا النوع من الحسابات ويتجنب إيداعها بنظام الفائدة المحددة مسبقاً.
والأخذ بمبدأ سلطان الإدارة في هذا الصدد ـ وحيث لا مخالفة للنظام العام أو الأخلاق العامة ـ يقوم أساساً قانونياً سليماً لهذا النوع من الودائع.
2_ وإذا كان هذا هو الأساس النظري للودائع في البنوك الإسلامية، فلا يعني ذلك أن البنوك الإسلامية تنطلق من هذا الأساس لتعرض مودعيها لمختلف أنواع المخاطر فسنرى عند الحديث عن الاستخدامات كيف تتخذ البنوك الإسلامية ضوابط للحذر والسلامة في استثماراتها.
ومن ناحية أخرى، فإن ضمان الوديعة بل وحداً أدنى من العائد عليها ليس مستبعداً في نظرية البنوك الإسلامية وذلك في الحالات التالية:
1_ إشتراط صاحب المال على المضارب في عقد الوديعة عدم استخدام ماله إلا في عمليات تدر حداً أدنى من العائد.
ب_ قيام طرف ثالث بضمان الوديعة وحد أدنى من العائد عليها، ويمكن أن يكون هذا الطرف الثالث هو أحد أجهزة الدولة.
ج_ قيام مؤسسة تأمين تعاوني تشارك فيها مختلف البنوك الإسلامية مهمتها ضمان الودائع في حالات معينة يتفق عليها.
د_ نصت المادة الرابعة من قانون النظام المصرفي الإسلامي في إيران على أنه لا مانع لدى المصارف من تأمين ودائع الرساميل التوظيفية ذات المدة.
3_ وتبقى ملاحظة قانونية تتعلق بالتكييف القانوني لربح المودع إذا طبقنا عليه المعايير الحالية للبنوك والشركات:
فالمودع يتنازل مقدماً عن حقه في الفوائد، ومعلوم أنه في معظم الدول ـ باستثناء فرنسا على حد علمي ـ لا يشترط القانون حداً أدنى للفوائد على الودائع، وبذلك يكون تنازل المودع عن الفوائد أمراً لا مساس له بالقانون المصرفي. كما أن حقه في نسبة الأرباح ـ إذا اعتبرنا أن دخل الاستثمارات البنك يمثل ربحه الإجمالي ـ أساسه هو تنازل المساهمين في البنك ـ وهم أصحاب الحق في أرباح البنك ـ عن جزء من ربح البنك للمودعين، ولا قيد كذلك من جانب قانون الشركات على حق المساهمين في التنازل عن أرباحهم.
4_ وهذا التكييف يؤدي بنا إلى مشكلة ضريبية في خضوع العائد الموزع على المودعين للضريبة، فمن المعلوم أن الفوائد التي تدفعها البنوك العادية للمودعين تعتبر عبئاً على أرباحها تخصم منها قبل الوصول إلى الربح الخاضع للضريبة والذي يوزع الصافي منه بعد الضريبة والاحتياطات على المساهمين.
وفي حالة البنوك الإسلامية تجري المحاسبة على نفس النسق، حيث يعتبر العائد الذي يوزع على المودعين عبئاً على أرباح البنك يخصم منه قبل الوصول إلى الربح الخاضع للضريبة، ومعاملة الودائع الإسلامية نفس معاملة الفوائد على الودائع في البنوك العادية أمر طبيعي إذ كلاهما عائد على المال، وتحاشياً للبس في المصطلحات نفضل استخدام لفظ العائدYield لما يوزع على المودعين تمييزاً له عن لفظ الربح dividend الذي نحتفظ به لما يوزع على المساهمين. ويجري صياغة الميزانية وحساب الأرباح والخسائر على هذا الأساس.
وقد نصت المادتان 6و8 من قانون مؤسسات التمويل الخاصة التركي على معاملة عائد الودائع نفس معاملة الفوائد من الناحية الضريبية.
وعلى أن الأرباح المدفوعة من مستخدمي الأموال إلى المؤسسة تعتبر عبئاً على أرباحها.