نظرية العقد المثالي :
من أهم التطبيقات على نظرية الحوافز هي مسألة تصميم العقد المثالي . ان العلاقات التعاقدية التي تنشأ بين الأفراد في ظل حالة عدم تماثل المعلومات Information A- Symetry تجعل الوصول إلى النتائج المطلوبة أمراً صعباً . ويقصد بالعقد المثالي تلك الاتفاقيات التي تتضمن القدر الكافي من الحوافز الذي يمكن من خلاله معالجة ثلاثة عناصر تتولد عن المعاقدة في ظل عدم تماثل المعلومات (يأتي ذكرها أدناه) إلى الحد الذي يمكن معه تحقيق الهدف من العقد (أو تحقيقه بالمستوى المتوقع عند التعاقد) أي التوصل إلى المستوى الأمثل من التعاون (لتوليد الفائض) . هذه العناصر هي :
1- المخاطرة الأخلاقية Maral Hazard :
ويسميها الاقتصاديون الآن Hidden Action يقال ان العقد يتضمن مخاطرة أخلاقية عندما تكون جهود الطرف الآخر أو قراراته لا يمكن التأكد منها إلا بتكاليف باهظة . وبما أن هذه الجهود أو القرارات لا يمكن التعرف عليها من قبل الطرف الآخر بسهولة فلا يمكن عندئذٍ النص عليها في العقد بربط حصة هذا الطرف من نتائج العمل التعاوني بهذه الجهود . فالبائع المتجول الذي يعمل في شركة ويحصل على مقابل لهذا العمل . هو يبذل جهداً ويبيع السلع . لكن جهده لا يمكن التحقق منه وإنما يمكن التحقق فقط من حجم مبيعاته . ولذلك لا يمكننا ربط ما يحصل عليه مقابل عمله بالجهد المبذول أو المطلوب بذله وإنما تربطها بالنتيجة النهائية وهي حجم المبيعات . تفترض النظرية ان كل طرف يحاول تعظيم المنفعة ، ولذلك إذا ربط الأجر بالجهد الذي لا يمكن التحقق منه فإن تعظيم المنفعة يدفع هذا البائع إلى تقليل الجهد إلى الحد الأدنى والاستمتاع بالراحة ، والحصول على نفس الدخل .
2- الإختيارات المتضادة Adverse Sellection :
ويسميه الاقتصاديون الآن الصفات الخفية Hidden Characterstric يكون لدى كل طرف في العقد معلومات ، بعضها يفصح عنها عند التعاقد وبعضها يحتفظ بها لنفسه وتكون خفية لا يظهرها للطرف الآخر . وإذا كانت المعلومات المخفاة تؤثر سلباً على مقدار المنفعة التي سيحصل عليها الطرف الآخر من العملية التعاقدية يقال ان العقد يعاني من مشكلة الصفات الخفية . ويحاول الوكيل اختيار صيغة العقد التي تحقق له أعظم منفعة ممكنة ولذلك فإنه يكتم المعلومات الخاصة ويحاول إظهار نفسه بصفة غير حقيقية .
وسوف يحاول كل طرف استخدام المعلومات الخصوصية (غير المفصح عنها) لتعظيم منفعته وليس لتعظيم الفائض من العملية التعاقدية الذي يشترك فيه الطرفان .
مثال ذلك سوق السيارات المستعملة . البائع يعرف عن سيارته معلومات خفية لا يفصح عنها لتعظيم منفعته بالحصول على سعر مبني على مظهر خداع للسيارة وبما أنه هو يعرف حقيقة السيارة فهو يعرف السعر الحقيقي لها (Reservation Price) الذي لا يقبل بالبيع دونه، والموظف يخفي حقيقة أمانته فيظهر أنه أمين مع أنه ربما يكون خلاف ذلك . وهو يعرف ان رب العمل لو عرف حقيقته لن يقبل بمنحه نفس الراتب ولذلك فإن تعظيم منفعته يتحقق أكثر بإخفاء المعلومات .
المؤشرات Signsals :
ما هي الطرق التي يستطيع بها أحد طرفي العقد توصيل المعلومات (في حال عدم تكافي المعلومات) إلى الطرف الآخر حول العناصر ذات العلاقة بنجاح العملية التعاقدية؟
حكاية :
أحد الملوك له بنت واحدة وليس له ابن يرث العرش . ولذلك أراد تزويجها إلى أحد أفراد الحرس ليصبح أمير وزوجاً للملكة . إشترط أن يكون هذا الفارس أشجع رجل في الحرس الملكي . وقرر أن أشجع رجل هو القادر على النوم في قلعة الأشباح وهي قلعة يسكنها الجن لا يسلم منهم من دخل فيها نهار ناهيك عن النوم في الليل . قام هذا الفارس بالنوم فيها ، هنا هو أرسل إشارة تبين شجاعته . لم يجعله النوم شجاعاً لأنه كان شجاعاً قبل ذلك ولكن النوم كان هو إشارة وقد أرسلها للحصول على أمر محبب إلى النفس هو الزواج من بنت الملك . فأفصح عن المعلومات لأن هذا الافصاح يحقق تعظيم المنفعة . لو أن طلب الملك أشجع رجل في الحرس ليرسله في عملية انتحارية لما أرسل ذلك الفارس إشارة تدل على شجاعته . فهو يعطي إشارة إذا رأى ان ذلك يؤدي إلى تعظيم المنفعة .
الشهادة الجامعية هي Signal إشارة . ليست بالضرورة ضمان للنجاح في الوظيفة ولكن إشارة إلى الحد الأدنى من الكفاءة .
ولذلك فإن جزءاً من مهمة الحوافز في العملية التعاقدية هو دفع الطرف الآخر إلى إرسال المؤشرات الصحيحة عن جهده وعن المعلومات الخفية لديه .
الحوافز :
إذن نحن نحتاج إلى صياغة العقد لكي نعالج مشكلة المخاطرة الأخلاقية ومشكلة الصفات الخفية . وقد رأينا كيف ان العقد مع البائع المتجول ربط الأجر بالنتائج النهائية وذلك لمعالجة المخاطرة الأخلاقية . رب العمل لا يعرف الجهد الحقيقي لهذا البائع المتجول ، ولكن البائع يعرفه ولا يفصح عنه ولذلك فإن ربط العمل بالنتائج النهائية يرغم العامل على الافصاح عن الحد الأدنى الذي لن يقبل أقل منه ، وهو الحد الملائم اعتماداً على المعلومات الخفية التي هي معلومة للعامل .
وعندما تلزم البائع للسيارة المستعملة على منح ضمان لمدة محددة (ثلاثة أشهر مثلاً) على السيارة ، فإنه سيجد ان السيارة إذا كانت غير صالحة فإنه سيضطر إلى استرجاعها بعد البيع مما يعني أن عملية تعظيم الربح التي يسعى إليها لن تحقق . ولذلك سيفصح عن المعلومات الصحيحة أو سيقوم باصلاح الأعطاب في السيارة بحيث يكون مظهرها ومخبرها .
عقد المضاربة :
المضاربة شركة في الربح بين نوعين من الشركاء ، شريك بماله ويسمى رب المال وآخر بعمله ويسمى المضارب أو العامل . وهو عقد قديم عمل به أهل مكة قبل الإسلام ثم لما بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، جاءت الشريعة مفصلة لأحكام المضاربة ومنها قبض رأس المال من قبل العامل فلا تصلح المضاربة بالديون ، والاتفاق على قسمة الربح عند التعاقد ، فيقول له لك النصف ولي النصف أو لك الثلث ولي الثلثان ، ...إلخ . ولهما ان يتفقا على ما شاء ، فإن لم يتفقا فسد العقد واستحق المضارب أجر المثل ، ولرب المال أن يشترط على المضارب الشروط التي يراها ضرورية لحماية المال أو تحسين فرص الربح مثل أن يقول لاه لا تبع بالأجل ، أو أعمل في مجال كذا وكذا فحسب ، كما أنه له اطلاق يد المضارب في المال بأن يقول له إعمل فيه برأيك . ويبقى المال ملكاً لرب المال ، ولا يجوز للمضارب أن يضمن له رأس المال أو الربح فإن فعل انقلبت المضاربة إلى قرض وصارت الزيادة عليه من الربا . إلا أن يخالف المضارب شرطاً من الشروط أو أن يكون مهملاً مفرطاً فإنه يضمن فإذا انعقدت المضاربة فليس لرب المال ان يتدخل في عمل المضارب .
وقد كان لعقد المضاربة أهمية بالغة في حياة المسلمين قديماً ، لأن التجارة وقد كان المسلمون أمة تجارية - اعتمد بصفة أساسية على المضاربة . وقد اكتسب عقد المضاربة أهمية في العصر الحاضر لاعتماد نموذج المصرف الإسلامي على فكرة المضاربة .
معلوم ان البنوك التقليدية التي تعمل بالفائدة تعتمد على نموذج يقوم على اقتراض البنك (الحسابات الجارية والمؤجلة في جانب الخصوم) ثم اقراضه (عمليات القروض والتسهيلات في جانب الأصول) وفي كلا الجانبين يظهر الربا صفة الزيادة المشروطة في القرض (الفائدة) لكن البنوك تقوم بوظيفة اساسية في حياة المجتمعات وهي الوساطة المالية فتساعد في نقل المدخرات من فئة الفائض في المجتمع إلى فئة العجز التي تحتاج من الموارد المالية أكثر مما تتوافر عليه .
قام نموذج المصرف الإسلامي على صيغة المضارب يضارب (وليس الاقتراض ثم الاقراض) فيأخذ البنك الأموال مضاربة (جانب الخصوم) يكون هو العامل وأصحاب الحسابات هم أرباب الأموال ثم يعطي الأموال مضاربة (جانب الأصول) يكون هو رب المال (أي مضارب يضارب) ورجال الأعمال هم المضاربون .
هل تعد المضاربة عقداً مثالياً ؟
العقد المثالي ، كما ذكرنا سابقاً هو ذلك النوع من الاتفاقيات الذي يتضمن القدر الكافي من الحوافز لمعالجة المشاكل المتولدة عن عدم تماثل المعلومات فهل يكون عقد المضاربة عقداً مثالياً أن أنه يعاني من آثار المشكلات المذكورة .
أولاً : المخاطرة الأخلاقية :
من الجلي أن جهد المضارب (العامل) لا يمكن التحقق منه لأن رب المال لا يتدخل في عمل المضارب ، وللمضارب أن يستقل بالعمل بالمال . ولذلك فإن هذا العقد يتضمن مخاطرة أخلاقية أو ما يسمى Hidden Action ولكن أحكام المضاربة فد عالجت هذه المشكلة بربط نصيب المضارب بالناتج النهائي (أي الفائض المتولد) وليس بالجهد المبذول في العمل .
ثانياً : الصفات الخفية :
تظهر مشكلة الصفات الخفية ، عندما لا يتمكن رب المال من التعرف بدقة على أمانة وإخلاص المضارب . ولما كانت هذه الصفات مهمة لانجاح العقد ، لأن المضارب إذا أظهر الأمانة عند التعاقد وكان خائناً في حقيقته ، فإنه لن يفصح عن مقدار الربح الحقيقي المتولد إذ سيستأثر به لنفسه ويدعي الخسار أو ربما أفصح عن نسبة من الربح أدنى مما تحقق في الواقع . وقد أدرك الفقهاء القدامى هذه المشكلة فصنفوا عقد المضاربة بأنه من عقود الأمانة حيث يعتمد بشكل أساسي على أمانة المضاربة وحدته .
عقد المضاربة في عمل البنوك الإسلامية :
تعتمد العلاقة بين البنك الإسلامي وأصحاب الحسابات الاستثمارية فيه على عقد المضاربة ، المصرف هو العامل والمودعون هم أرباب الأموال . ولا زالت العلاقة معتمدة على المضاربة في تطبيقات البنوك الإسلامية حتى يوم الناس هذا . وعندما بدأت هذه البنوك نشاطها في أواخر السبعينات الميلادية حاولت تطبيق نموذج المضارب يضارب بأن تقدم الأموال إلى المستثمرين على أساس المضاربة يكون المصرف فيها رب المال ورجال الأعمال هم المضاربون . إلا أن هذا الترتيب لم نجح إذ ظهرت فيه مشكلة المخاطرة الأخلاقية والصفات الخفية . فحسرت البنوك بطريقة أدت إلى إلغائها لعقد المضاربة في جانب الأصول والاعتماد بصفة أساسية على عقد المرابحة .
وهناك ثلاثة أسئلة رئيسية نجيب عليها الآن :
الأول : لماذا نجحت المضاربة في جانب الخصوم من ميزانية البنك وفشلت في جانب الأصول؟
الثاني : بماذا تتفوق المرابحة على المضاربة؟
الثالث : هل يمكن تطوير عقد المضاربة بحيث نقلل من المشكلة المذكورة؟
1- نجحت المضاربة في جانب الخصوم ، لأن العلاقة بين المصرف وعملائه المودعين للأموال علاقة متكررة (Repeated Game) ولذلك يكتسب بها كل جانب الخبرة . فلو إتجه المصرف إلى الخيانة فإنه سيفتقد عملائه . ولذلك فهو لا يقدم على مثل ذلك ، أما عميل البنك فإنه لا يبالي بمثل ذلك حيث لا يضيره بعد أن أستأثر بالربح في المرة الأولى أن لا يقبل البنك التعامل معه مرة أخرى .
2- وتتفوق المرابحة على المضاربة لأن المرابحة تولد ديوناً تسجل في دفاتر البنك وتوثق بالرهون أو الضمانات الشخصية والكفلاء . ولذلك فإنها تعالج مشكلة المخاطرة الأخلاقية والصفات الخفية بطريقة مختلفة ، إذ إن النتائج غير معتمدة على أمانة وإخلاص المدين بل على قوة الضمانات وقدرة البنك على التنفيذ عليها .
3- ولقد سعت البنوك الإسلامية إلى تطوير عقد المضاربة بحيث يتفادى مشكلة المخاطرة الأخلاقية والصفات الخفية ضمن نطاق المباح من ذلك :
أ- حصر المضاربات في عمليات تسهل فيها المراقبة مثل بيع السيارات بالتقسيط.
ب-التعامل في المضاربة مع الشركات وليس الأفراد .
ج- أخذ الرهون والضمانات من المضارب ليس لضمان رأس المال بل للتعويض في حالة الإهمال أو مخالفة الشروط أو المماطلة في رد رأس المال عند إنتهاء العقد .
د- إدخال حوافز إضافية لتشجيع المضارب على الإفصاح عن الربح الحقيقي كأن يقال إذا كان الربح 1000 أو أقل من ذلك إقتسمناه 50% - 50% ، وإن جاء 1000 إلى 2000 فيكون الربح 40% لرب المال و60% للمضارب ، فإن زاد على 2000 فيكون 30% لرب المال و70% للمضارب وهكذا .
المراجع :
1- G. Bamberg and klaus Spremann (Edit) Agency Theory , Information and Incentives Berlin , Springier - Verlag 1987 .
2- Jean - Jacques Laffont and Jean Tirole A theory of Incentives in procurement and Regulation . Cambridge , Mass . The MIT Press , 1994.
3- Donald E. Campbell
Incentives , Motivation and The Economics of Information
London , Cambridge university . press 1995.
4- Ines Macho - Stadler
David Peres - Castrillo
An Introduction to the Ecnomics of Information Incentives and Contract
London - Oxford , 1997
الحواشي
1- فمثلاً المصنع الذي يقرر استخدام الفحم كمصدر للطاقة سينجح في تحقيق هدفه في تعظيم الأرباح لأن الفحم أرخص مصادر الطاقة ، ولكنه سينفث إلى الفضاء أول أكسيد الكربون وهو من المركبات السامة التي تؤدي إلى زيادة عدد المرضى والوفيات في المجتمع . إذن فإن هذا ليس انخفاضاً حقيقياً في التكاليف ولكنه نقل التكلفة من المصنع إلى المجتمع ككل .
2- فمثلاً الضمان على السلعة الذي يشترطه المشتري على البائع هو وسيلة لدفعه إلى الإفصاح عن النوعية الحقيقية للمبيع .
3- حتى الإنتاج في ظل التحليل الاقتصادي إنما هو تبادل بين معطيات العمل ورأس المال والإدارة ...إلخ .
4- وحتى لو كانا جميعاً فإن مصالحهما متناقضة ولذلك ربما اتفقا ثم خان كل واحد منهما الآخر .
5- لا ريب ان السوق كان من أهم المخترعات الإنسانسة في مجال الاقتصاد . ولقد عرف الناس أهمية الأسواق من ناحية توفير المعلومات الصحيحة والحديثة عن الأسعار والأحوال الاقتصادية . ولذلك كان السوق من المقومات الأساسية للمجتمع الإنساني منذ القديم ، ويمكن القول ان أكثر التنظيمات التي ادخلها الإنسان على الأسواق كمنع الاحتكار كان غرضها إعطاء السوق القدرة على توفير المعلومات الصحيحة عن الأسعار والظروف المؤثرة على التبادل.
6- أنظر في تفصيل ذلك S. Ross , The Economic Theory of agency : The Principals problem, Amercan Economic Review 63 !1973) 134-139. B.Holmstrom , Moral Hazard and obeservabiling - Bell Journal of Economics 1979 ; 74--91.
7- K.J. Arrow : Uncertainty and the Welfare Economics of Medical Care . American Economic Review 1963 Vol 53 PP. 941 - 973