قراءات في الاقتصاد عند ابن خلدون
المحور الأول: مدخل إلى موضوع البحث
منهج الدراسة (المداخلة):
إننا إذ نتعرض لدراسة النظريات والأفكار و بشكل خاص الاقتصادية منها عند ابن خلدون، إنما تتعرض لها من ثلاثة جوانب:
1. الجانب الأول: اكتشاف النظريات الاقتصادية متعددة المشارب (من مصدر شرعي، أخلاقي أو علمي) والواردة في المقدمة التي وضعها ابن خلدون، و هو ما سوف نتطرق له من خلال المحور الأول من الدراسة.
2. الجانب الثاني: أن تتناول بالتدقيق والتعمق بعض المفاهيم الأساسية التي يدور حولها التفكير الاقتصادي الخلدوني، فنحصل من خلال هذا التدقيق والتعمق على تصور صحيح. وعرض واقع هذا التفكير كما هو بالفعل.
3. الجانب الثالث: محاولة تطبيق بعض الأفكار والمفاهيم الخلدونية على وضعيات اجتماعية معاصرة، وأن نستعملها استعمالاً جيداً ومفيداً في عصرنا، بعد الانتقاء واختيار المناسب مع المحافظة على الصيغة العلمية المحضة. وبذلك نستطيع أن نتجاوز مرحلة الوصف والتحليل إلى مرحلة التطبيق. و بهذا الخصوص سوف نكتفي بعرض فكرة أو مفهوماً لابن خلدون و محاولة استعمالها في الواقع المعاصر، و ذلك من خلال المحور الثاني من دراستنا.
أهمية الأفكار الاقتصادية عند ابن خلدون (أو أهمية البحث):
لعلنا إذا أمعنا النظر في تاريخ الأفكار الاقتصادية، قد نجد ابن خلدون من الأوائل ممن قرر موضوعية الاقتصاد واستقلاله كموضوع من موضوعات العمران الواسع. وإذا كانت الروح الأخلاقية والفكر الإسلامي يطفو على كل اهتمامات هذا العمران، فالقضية قضية مناخ فكري عام. وقضية نظرة شمولية فلسفية.
و نحن كما اشرنا من خلال المنهجية التي سنتبعها في هذه الدراسة، فإننا نعتقد أن البحث في الأفكار الاقتصادية عند ابن خلدون ليس مجرد حصر تاريخي لتلك الأفكار و الآراء لأن ذلك موضوع علم التاريخ، و إنما الهدف هو إثبات أن هذه النظريات ما تزال تصلح للتطبيق في عصرنا هذا ... و من هنا تنبع أهمية هذا البحث.
ما هي أهم اكتشافات ابن خلدون في ميدان الاقتصاد بشكل عام حتى يتاح لنا أن نؤرخ لأفكاره وحتى نتمكن من إعطائه مكانته بين مفكري الاقتصاد؟.
إن أهم الاكتشافات الخلدونية كانت في شبه قوانين اقتصادية يمكن تلخيصها فيما يلي:
1. إثبات موضوعية الحياة الاقتصادية، وتحديد ظاهراتها الأساسية مع إبراز منهج أولي لإدراك الواقع الاقتصادي منعزلاً أو متصلاً مع الواقع المجتمعي بأكمله.
2. الإلحاح على أن الحياة الاقتصادية مربوطة بالأرض، وهذا فيما يخص تاريخية هذه الحياة وأسس انطلاقتها، مع الإقرار أنه قد يحصل شبه استقلال عن الأرض في الحياة المدنية التي تعتمد كثيراً على اختراعات الإنسان.
3. التأكيد بأن العمل الإنساني هو تقريباً مصدر كل المعاش، وأنه لا معنى للخيرات الأرضية بدون عمل إنساني. هذا مع تصنيف للأعمال إلى أعمال طبيعية هي الأعمال المنتجة، وغير طبيعية وهي الأعمال التي يعتمد أصحابها على استغلال إنتاج الآخرين.
4. إثبات أن الحياة المعاشية تمتد آثارها إلى مختلف النشاطات والميادين المجتمعية الأخرى من سياسة وسلوك أخلاقي وتنظيمات.
5. التأكيد بأن الصراع مستمر بين المجموعات التي يتباين ويتناقض معاشها، ويتلخص ذلك في الصراع الدائم بين البدو أهل المعاش الزراعي والرعوي المقتصر على الضروري، والإقطاعية السلطانية ومن حولها من الطبقات التي تعتمد على المعاش الحضري المترف المستمد ترفه من استغلال الطبقات المنتجة.
الدراسات السابقة حول الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون:
الحقيقة أن الدراسات عن ابن خلدون و بكل ما تعلق به من أفكار و آراء كثيرة جداً لا يمكن حصرها. و إذا كان البعض قد اعتبر أن ابن خلدون لم يترك علماً إلا و تناول منه جزءًا، فمن التاريخ إلى السياسة إلى الملك إلى الاقتصاد....فإن علم الاقتصاد و الذي لم يكن آنذاك شأنه شأن كثير من العلوم مستقلاً عن العلوم الاجتماعية قد حاز اهتماماً كبيراً من جانب ابن خلدون. و مع ذلك كله، يبقى هذا الجانب من الفكر الخلدوني واحداً من الجوانب التي لم يتم الاعتناء بها كامل الاعتناء مقارنة بالجوانب الأخرى للفكر الخلدوني، هذا على الرغم من أنه لا يمكن الادعاء بأنه جانب وقع إهماله، إذ خصصت له دراسات، سواء كانت دراسات اقتصادية مستقلة أو دراسات جاءت ضمن الأبحاث الاجتماعية.و من بين الدراسات التي خصصت للاقتصاد عند ابن خلدون نذكر مثلاً:
• "النظريات الاقتصادية عند ابن خلدون" للدكتور عبد المجيد مزيان، قد تناول فيها الباحث واقع المجتمع الإسلامي اقتصادياً، و الطبقية و الإنتاج و علاقات الإنتاج و العمل...و جاء كتابه في شكل سرد وصفي.
• "رائد الاقتصاد: ابن خلدون"، للدكتور محمد علي نشأت.
• "Les idées économiques d'Ibn Khaldoun"
للأستاذ صبحي محمصاني. و على الرغم من أن العنوان يشير إلى الأفكار الاقتصادية عند ابن خلدون إلا أن الباحث يركز بشكل أساسي على الطابع القانوني.
• « Ibn Khaldun contribution to the science Economics »
و هذه الدراسة للأستاذ سليما عبادي، و قد تطرق من خلالها لبعض النظريات الاقتصادية عند ابن خلدون منها مثلاً توازن السوق، النمو الاقتصادي، نظرية القيمة، المالية العامة....
و غيرها من الدراسات كثير.
و نحن هنا لسنا بصدد تناول الآراء الاقتصادية لابن خلدون فليس هنا مقامها، و إنما نعرضها مجملة ثم نكتفي بأخذ نقطة واحدة من التحليل الاقتصادي لابن خلدون و تحليلها تحليلاً مفصلاً. و قد وقع اختيارنا على فكرة أثارت و تثير الكثير من الجدل لدى المفكرين الاقتصاديين المعاصرين، و بشكل خاص في الولايات المتحدة الأمريكية، و هي ما اصطُلح على تسميته أثر لافر، و هو نفسه مبدأ "الضريبة تقتل الضريبة". و هذا الأثر أو المبدأ و الذي هو أحد أهم ركائز مفكري اقتصاديات العرض.