الكاتب: الشيخ د.قيس آل الشيخ مبارك
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
أما بعد فإن طبيعة المهن المصرفية، وما فيها من تعاملات تجارية من صرافة وتحويل وفتح حساب وفتح اعتماد وغير ذلك، يترتَّب عليها إطلاع على أموال الناس وحساباتهم العامة، بل و أموالهم الخاصة، وهي أشياء يختص بها الأفراد، ولا يُحِبُّ أحدهم أن يطلع عليها أحد غيره، ويعتبرها من أخصِّ أسراره.
لكن ضرورة التعاملات التجارية وما يترتب عليها من عمليات مصرفية هي التي دعَت العميل إلى كشفها للمصرف على سبيل الأمانة التي لا يريد إظهارها لغير المصرف، فلولا الحاجة والضرورة، لما باحَ بشيء من هذه الأسرار للمصرف، فإن كثيرا من الناس تعرض لهم حاجات تجارية يُخفونها عن أخصِّ الناس إليهم من إخوانهم وأبنائهم بل وعن آبائهم وأمهاتهم، ويبوحون بها للمصارف لداعية الحاجة أو الضرورة.
وهذه التعاملات تشمل كل العمليات المصرفية كفتح الحسابات الجارية وغير الجارية وكفتح الاعتمادات البنكية وكخصم الأوراق التجارية وغيرها، وتشمل كذلك ما يترتب على هذه العمليات خلال سير العمل المصرفي من وصول معلومات خاصة بالعميل بسبب علاقاته بعملاء آخرين وتعاملاته معهم بعمليات مقاصة أو تحويلات أو غيرها، داخل المصرف أو من خلال مصرف آخر.
والأصل في المعاملات المصرفية أنها سرٌّ بين المصرف والعميل، والواجب في السِّر كتمانه وعدم البوح به، وقد ظهر لي أن هذه الأسرار المتعلِّقة بأموال الناس نوعان:
الأول: مالا يحل النظر إليه ولا يحل كشفه للآخرين، وأن الأمر مناطه الحاجة الداعية للإطلاع عليه.
والآخر: ما تدعو الضرورة لكشفه والإطلاع عليه.
أما النوع الأول منها وهو مالا تدعو الضرورة لكشفه فأقول في بيانه:
قد يكون ما يطلع عليه موظف المصرف من الحسابات، لا يحب العميل أن يراه أحد، ويكتمها عن أبويه وأهله، فيجب على المصرف حفظ الأمانة التي استودعه إياها العميل. وقد قال الله تبارك وتعالى في وصف عباده المؤمنين: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ).
فهذه الآية الكريمة قد وصفت المؤمنين بحفظ الأمانة ورعايتها، وأموال عملاء المصارف وتعاملاتهم أمانة في أعناق المصرفيين، فلا يحل لهم إفشاؤها، فقد قال الإمام أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: ( وهذا يعمُّ معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، وغاية ذلك: حفظه والقيام به ) .
وقد قال الله تعالى مخاطباً عباده المؤمنين ( إن الله يأمركم أن تؤدُّو الأمانات إلى أهلها )، قال الحافظ أبو بكر ابن العربي ( اختلف الناس في الأمانات فقال قوم: هي كل ما أخذته بإذن صاحبه، وقال آخرون: هي ما أخذته بإذن صاحبه لمنفعته، والصحيح أن كليهما أمانة ) ، ثمَّ ذكر سبباً في نزولها وعلَّق عليه بقوله ( ولو فرضناها نزلت في سبب فهي عامَّة بقولها شاملة بنظمها لكل أمانة ) .
وقد ذكر أبو عبد الله ابن الحاج رحمه الله تعالى كلاماً مهماً فيما يتعلَّق بأسرار المرضى وهو قوله: ( وينبغي أن يكون أمينا على أسرار المرضى فلا يطلع أحدا على ما ذكره المريض، إذ أنه لم يأذن له في إطلاع غيره على ذلك، ولو أذن فلا ينبغي أن يفعل ذلك معه ) .
ذلك أن النظر إلى عورات الناس وإفشاء أسرارهم، يعتبر صورة من صور العدوان الذي نهانا عنها ربنا تبارك وتعالى في قوله: (( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان )) .
ثم إن إفشاء السر لا يخلو من حالين:
الأول: أن لا يكون فيه إضرار بالعميل.
الآخر: أن يكون فيه إضرار بالعميل.
أما الحال الأول فتشمله الآيتان السابقتان وتشمله الأحاديث الواردة في حفظ السر كقوله عليه الصلاة والسلام ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) .
فالستر في هذه الحال مطلوب وقد عدَّ الإمام الغزالي رحمه الله تعالى إظهاره وهَتْكَه لؤماً ممن هَتَكَه.
فإذا كان من الأسرار ما هو من قبيل المعاصي والآثام ولم تندب الشريعة الإسلامية إلى كشفه، ولاهتك ستر صاحبه، وذلك كأن يرتكب الإنسان معصية مرة أو مرات متعددة، ويكون في إقدامه على فعل المعصية متسترا عن أعين الناس، متخوفا من أن يطلع عليه أحد، ومتندِّما على ما وقع منه من مخالفة لأمر الله تعالى، فإذا اطلع أحد المسلمين على شيء من ذلك وكان مطمئنا إلى توبة صاحبه أو متوقعا منه ذلك، فإن الأولى والأفضل أن يسبل عليه ثوب الستر، فلعل الستر عليه يكون دافعا له لنسيان معصيته وعدم الأوبة إليها .
وفي ذلك يقول الإمام النووي رضي الله عنه: (وأما الستر المندوب إليه هنا، فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم، ممن ليس هو معروفا بالأذى والفساد ) .
ذلك أن من لم يعرف بالأذى والفساد، ولم يشتهر به، ولم يخش من الستر عليه حصول مفسدة، فليس هناك ما يدعو لهتك ستره وإفشاء سره
ويقول الحافظ أبوبكر بن العربي رضي الله عنه: (من اطلع على رجل في فعل يوجب الحد، استُحبَّ له أن يستر عليه، ولا يفضحه، إبقاءً على الفاعل وعلى القائل. أما الفاعل فلعله إذا وُعظ لم يَزِد، ولا تشيع عليه الفاحشة. وأما القائل فعلى نفسه أبقى، لأنه إن ذَكر ذلك توجه عليه الحد، إن كان قذفا، والأدب إن كان من سائر المعاصي).
وأما الحال الآخر فله صور كثيرة يتضرَّر فيها العميل، منها ما يختص بالأسرار المصرفية وحدها، ومنها ما يشملها ويعمُّ غيرها.
فمن ذلك ما يترتب عليه القدح في عدالة العميل، ومن ثم سقوط شهادته وعدم قبول أقواله حين يقع منه فعلٌ يوجب ذلك.
ومن ذلك أن يجفوه من كان يُحبُّه ويألفه حين يَعلَم منه تصرُّفاً ستره الله عليه وبذلك تفسد العلاقات الاجتماعية بين الناس.
ومن ذلك أن يَحقِرَه من كان يُجلُّه ويعظِّمه.
ومن ذلك أن يترتب على إفشاء معاملاته المالية أن يسوء ظن أهله به، ويفسد الودّ الذي بينه وبينهم، وبذلك تقع قطيعة الرحم، وتنقطع أواصر المحبة والقربى.
ومن ذلك أن ينكشف من حال العميل معاملات بنكية يفقدُ بسببها ثقة المتعاملين معه فيتخوَّفون من الدخول معه في بيع أو شراء أو أي نوعٍ من أنواع التجارة، فتفوته بذلك فرصٌ كثيرة من فرص العمل، فيترتب على ذلك أضرار مالية تقع على العميل، يفقد بسببها أرباحاً كان يؤمِّل تحصيلها.
ومن ذلك أن تكون بعض المعلومات أسراراً مملوكةً لأصحابها، داخلةً تحت مسمَّى سرِّ المهنة الذي يباع ويُستثمر بحيث يترتب على العلم به فقدان فرص تجارية أو مصالح اقتصادية فيفوت العميل تحصيلها.
ومن ذلك أن يُفضي كشف المعلومات عن الأموال وكشف تحرُّكها من حساب إلى آخر، إلى وقوع اعتداء عليها من الآخرين.
ومن ذلك أن يترتب على الكشف عن وجود أموال للعميل إلزام العميل بأعباء مالية من غرامات وغيرها، ما كانت لتلزمه لولا الكشف عنها.
ومن ذلك أن يُفضي كشف بعض الأسرار المالية إلى حرمان صاحبها من مرتبة وظيفية، كان يُظن وصوله إليها، لو لَمْ ينكشف من أسرار أمواله شيء.
والذي يظهر لي أن إفشاء المصرف لما لا تدعو الضرورة لكشفه، وإظهاره لشيءٍ من أسرار العميل، يعتبر معصية توجب تأثيم فاعلها.
والمعصية عند الفقهاء كما أنها توجب تأثيم صاحبها، فإنها توجب التعزيز في الدنيا لأن القاعدة عندهم تقول: ( من أتى بمعصية لاحد فيها ولا كفارة، فعليه التعزيز) 0
غير أن المعاصي تتفاوت في درجاتها ومراتبها، بحسب ما تفضي إليه من مفاسد وأضرار فلذا يلزم أن يكون التعزير متناسبا مع حال الواقعة أي السِّر الذي انكشف، فكلما كانت المعصية خفيفة الضرر، لزم أن يكون التعزير أخف، والعكس بالعكس.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ( لما كانت مفاسد الجرائم متفاوتة، وغير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة، وهي مابين النظرة والخلوة والمعانقة جعلت عقوباتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، بحسب أرباب الجرائم في أنفسهم، فمن سوى بين الناس في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكم الشرع )0
فاعتبر رحمه الله تعالى، تفاوت العقوبات على المعاصي متناسبا مع خطورة المعاصي.