أ.د/ كمال توفيق حطاب
أستاذ ورئيس قسم الاقتصاد والمصارف الإسلامية
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة اليرموك
2007
مقدمة:
تعتبر السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم ،ومع ذلك تعتبر هي المصدر الأول لشرح وتفسير واستنباط الأحكام والتشريعات من القرآن الكريم في كافة المجالات ،فالسنة مبينة مفسرة شارحة للقرآن ،كما أنها في بعض الأحيان مفصلة متممة لبعض الأحكام في القرآن الكريم.
ونظرا للأهمية الكبرى للاقتصاد في عصرنا الحاضر ،ولخطورة المشكلات الاقتصادية المستعصية التي تعاني منها مختلف دول العالم ،فقد كان لا بد من الرجوع إلى هديه صلى الله عليه وسلم في الجانب الاقتصادي ،للتعرف على أهم المعالم والمبادئ التي استطاع من خلالها صلى الله عليه وسلم حل أعقد المشكلات التي كانت في عصره،ففي فترة قياسية وجيزة في عمر التاريخ استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بناء جيل قرآني فريد ،لديه كافة الإمكانات للبناء والنهضة والتقدم ،كما استطاع تكوين دولة مؤسسات شورية ،ذات أنظمة قرآنية مستقرة،وبناء نظام اقتصادي واضح المعالم يقوم على أساس العدل والإحسان ورفض الظلم والبغي والعدوان.
كيف فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ وهل كانت له منهجية محددة في تحقيق أهدافه؟ كيف كان سلوكه الاقتصادي صلى الله عليه وسلم كفرد وكراع للمسلمين؟ ما هي أهم الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها صلى الله عليه وسلم؟
حول هذه الأسئلة والمحاور يدور هذا البحث ،ويحاول أن يجد إجابات مباشرة وغير مباشرة لهذه الأسئلة ،وذلك في المبحثين الآتيين :
المبحث الأول: منهجية العمل بالسنة في المجال الاقتصادي
المبحث الثاني: السلوك الاقتصادي للنبي صلى الله عليه وسلم:
المبحث الأول: منهجية العمل بالسنة في المجال الاقتصادي
إن النجاح الباهر الذي حققه النبي صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث وعشرين سنة في كافة المجالات،لم يكن نتيجة عمل عشوائي أو اتكالي ،وإنما كان نتيجة تخطيط مدروس ومنهجية واضحة ،أحاطها الوحي بالعناية والرعاية والحماية ،واستخدم النبي صلى الله عليه وسلم كافة طاقاته وإمكاناته البشرية لتحقيق هذا النجاح في كافة المجالات.
وقد كان ذلك من خلال سلوكه الاقتصادي الإيثاري وتطبيقاته للتعاليم الربانية التي كانت تتنزل عليه ،فهل يمكن لأحاديثه وتطبيقاته وسيرته صلى الله عليه وسلم أن تحقق ما حققه في العصر الأول؟ وكيف يمكن العمل بالسنة في هذا العصر الذي نعيش فيه؟ وقبل ذلك ما هي السنة؟ وما هي أهم مصادرها؟ ما الفرق بين السنة والعادة؟ وما الفرق بين الأحكام الثابتة والمتغيرة المستنبطة من السنة؟ هذه هي أبرز الأسئلة التي يتناولها هذا المبحث ،وسوف يكون ذلك في المطالب التالية:
المطلب الأول: السنة ومصادرها
المطلب الثاني: علاقة السنة بالقرآن
المطلب الثالث: الثبات والتغير في الأحكام المبنية على السنة
المطلب الرابع: المنهجية المقترحة لتفعيل تطبيق السنة في المجال الاقتصادي
المطلب الخامس: السنة والأعمال الدنيوية
المطلب الأول: السنة ومصادرها:
السنة في اللغة:الطريقة المعتادة التي يتكرر العمل بمقتضاها([1])،جاء في مختار الصحاح السنن الطريقة والسنة السيرة ([2]). قال تعالى"سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا"(الأحزاب ،62).
السنة في الاصطلاح: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير ([3]).
أما القول فهو حديثه صلى الله عليه وسلم مثل قوله "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"([4]) وأما الفعل فأفعاله صلى الله عليه وسلم التي نقلت إلينا عن طريق الصحابة مثل أدائه الصلوات والحج وغيرها من الأفعال.. وأما التقرير فإقراره صلى الله عليه وسلم كثيرا من عادات وسلوكيات العرب الحميدة قبل الإسلام ،وسكوته صلى الله عليه وسلم عن إنكار أي قول أو فعل.
مصادر السنة:
تناقلت الأجيال سنة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الحفظ ،وفي القرن الثاني الهجري قامت حركة علمية هائلة لتدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم.. وتم تدوين السنة في كتب اقتصر بعضها على الصحيح كالبخاري 256هـ ومسلم 361هـ ،وبعضها غلب عليه الصحيح كالسنن الأربعة لأبي داود 275هـ والترمذي 279هـ وابن ماجة 273هـ والنسائي 330 ومسند أحمد وموطأ مالك..
وبعضها اختلط فيه الصحيح بالضعيف وتولى العلماء بيان ما فيها من صحيح أو ضعيف كمعاجم الطبراني الصغير والكبير والأوسط ،ولا يزال العلماء حتى يومنا هذا يعملون في بيان صحيح الأحاديث من ضعيفها.
ولم يقتصر العلماء على تصنيف كتب السنة وإنما صنفوا في شرح كتب السنة مثل شروح البخاري وأشهرها فتح الباري ،وشرح النووي على صحيح مسلم ،كما وجدت مصنفات كثيرة في أحاديث الأحكام مثل عمدة الأحكام وبلوغ المرام وسبل السلام ونيل الأوطار.. الخ
كما ألف بعض العلماء كتبا في الأحاديث الضعيفة والموضوعة ،وفي الترغيب والترهيب وفي علوم الحديث وقواعد التحديث.([5])
المطلب الثاني: علاقة السنة بالقرآن
لا خلاف في أن السنة مصدر للتشريع ،ولكن مرتبتها مرتبة تالية للقرآن بمعنى أن الاحتجاج بالقرآن مقدم على الاحتجاج بالسنة ،وأن المجتهد يبحث عن الحكم في القرآن أولا ثم في السنة ،والدليل على ذلك ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله ،قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي ولا آلو ،فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله([6])..
وقد دل على حجية العمل بالسنة أدلة كثيرة منها ([7]):
* - التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى في قوله تعالى"وما ينطق عن الهوى ،إن هو إلا وحي يوحى"(النجم ،3-4).
* - الأمر بطاعة الرسول ،وجعل طاعته طاعة لله ،قال تعالى "قل أطيعوا الله والرسول"(آل عمران ،32) ،وفي آية أخرى"من يطع الرسول فقد أطاع الله "(النساء ،80).
* - الأمر باتباع ما يأتينا به الرسول"وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"(الحشر ،7).
* - وجوب تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يحصل من خلاف"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"(النساء ،65).
ومن جهة أخرى فإن نصوص القرآن قطعية الثبوت في حين أن نصوص السنة ظنية الثبوت في الجملة ،ولذلك تأتي في المقام الثاني بعد القرآن كما سبق ،وقد اختلف العلماء حول أقسام السنة من حيث الثبوت والحجية والصحة إلى ثلاثة أقسام: المتواتر،والمشهور،والآحاد،على الترتيب ،واختلفوا في الحديث الصحيح هل يوجب العلم القطعي اليقيني أو الظني؟ ثم فصلوا في الإجابة بأن الحديث المتواتر لفظا أو معنى هو قطعي الثبوت بلا خلاف أما غيره من الصحيح فذهب بعضهم إلى أنه ظني الثبوت،وذهب آخرون إلى أنه يفيد العلم اليقيني وهو مذهب الظاهرية.. واختار ابن الصلاح وعدد كبير من العلماء أن ما ورد في الصحيحين مقطوع بصحته ،والعلم اليقيني النظري واقع به،باستثناء أحاديث قليلة نبه إليها العلماء([8]).
ومع ذلك فلا يزال علماء الحديث حتى وقتنا الحاضر يعملون في تصحيح الأحاديث سندا ومتنا ،ويأخذون بعلمي الرواية والدراية وما يتفرع عنهما من علوم في طلب الإسناد وسماع الحديث وأخذه وتبليغه وروايته ونقد سنده ومتنه وضبط رواته ،وإن كانت العناية منصبة بشكل كبير إلى عمليات نقد المتن ومدى موافقته لما في القرآن والمعقول،فمن شروط صحة الحديث عدم مخالفته لما جاء في القرآن الكريم ،ولذلك فقد ردّت عائشة رضي الله عنها حديث تعذيب الميت ببكاء أهله بقوله تعالى"ألا تزر وازرة وزر أخرى"(النجم ،38) وردّت حديث سماع موتى بدر من المشركين لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى"وما أنت بمسمع من في القبور"(فاطر ،22) ([9])
المطلب الثالث:الثبات والتغير في الأحكام الشرعية الاقتصادية المبنية على السنة:
إن قضية الثبات والتغير في الأحكام الشرعية من القضايا الدقيقة والتي تحتاج إلى نظر فقهي عميق وتمحيص دقيق ،ولا شك أن هذه المسألة ترتبط ارتباط وثيقا بمسألة القطعي والظني،والعام والخاص،وكذلك بتغير الأعراف والظروف والأزمان.
وقد حاول العلماء وضع ضوابط محددة لهذه المسألة من أبرزها ([10]):
* 1- ضرورة التحقق من قطعية ورود النص ،ومناسبته ،ومعرفة العام والخاص والمطلق والمقيد.. الخ: فالنص القطعي الثبوت هو النص القرآني كما تقدم ،وقد يكون في مناسبة معينة إلا أن العبرة غالبا لعموم المناسبة لا لخصوص السبب.
* 2- تحديد ما يعد تشريعا وما لا يعد تشريعا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ،وتنقسم السنة باعتبارها تشريعا وغير تشريع إلى قسمين:
الأول: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره نبيا مبلغا عن الله فهذا يعتبر تشريعا للأمة بلا خلاف.
الثاني: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال لا باعتباره نبيا مبلغا عن الله ولكن باعتباره إنسانا أو بمقتضى طبيعته البشرية كالأكل والشرب أو بمقتضى خبرته في الشئون الدنيوية ،فهذا النوع لا يعتبر تشريعا للأمة ،ويلحق به ما كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل وصاله في الصيام وزواجه بأكثر من أربع ([11]).
* 3- تحديد ضوابط المصلحة ومدى اعتبارها دليلا شرعيا: وذلك بأن تكون مصلحة عامة لا خاصة ،حقيقية وليست وهمية ،ويقررها أهل الحل والعقد ولا يقررها أهل الهوى والمصالح الشخصية.
* 4- تحديد ما يمكن أن يتغير من الأحكام بتغير الزمان: وهذا أدق أبواب الاجتهاد وأصعبها،فقبل الحكم بتغير الحكم الشرعي لا بد من مراعاة هذه الضوابط ،"فمن الأحكام الاجتهادية ما مأخذه ومستنده مصلحة زمنية ،تتغير بتغير العصر وتبدل الأحوال،فينبغي أن يتغير الحكم تبعا لها.. ومن الأحكام ما يستند إلى عرف أو وضع كان قائما في زمن الأئمة المجتهدين ،أو في زمن مقلديهم من المتأخرين ،ثم تغير هذا العرف أو الوضع في زمننا"([12]).
وقد حاول بعض العلماء تصنيف الأحكام الثابتة والقابلة للتغير ،فقال بأن الأحكام الثابتة هي الأحكام التي تمثل أصول الشريعة وأسسها ومبادئها العامة كالأحكام التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع ،والأحكام التي تتعلق بمقاصد الشريعة كتحقيق العدل ومنع الظلم وحفظ الضروريات ،أما الأحكام التي تتعلق بالوسائل أو التي ثبتت باجتهاد كشكل النقود وهل هي ذهبية أو ورقية فإنها قابلة للتغير ،وكذلك الأحكام التي تستند على أدلة ظنية فإنها قابلة للتغير.([13])
ويقول الأستاذ محمد قطب"إن في الإسلام ثوابت ومتغيرات ،فمن الثوابت أمور العقيدة،شهادة أن لا إله إلا الله ،والعبادات بجملتها وتفصيلاتها ،والحدود ،وغير ذلك مما فصله الفقهاء ،وهناك أمور متغيرة أذن الشارع بالاجتهاد فيها ،ولكنه قيدها - في تغيرها الدائم بمحاور ثابتة أو أصول ثابتة ،لا يجوز أن تحيد عنها في أثناء تغيرها ونموها ،بما يلائم ما يجد من أمور في حياة الناس"([14]).
ومع ذلك فهناك اتفاق لدى الفقهاء القدامى والمعاصرين على وجود الأحكام الثابتة والمتغيرة أو القابلة للتغير ،فمن الأحكام الثابتة في المجال الاقتصادي - على سبيل المثال - تحريم الربا،وجوب الزكاة ،وجوب الوفاء بالعقود ،تحريم أكل المال بالباطل ،.. ومن الأحكام القابلة للتغير بتغير الظروف ،أحكام التسعير والاحتكار والاكتناز ،.. الخ.
المطلب الرابع: المنهجية المقترحة لتفعيل تطبيق السنة في المجال الاقتصادي
بناء على ما سبق ،وفي ضوء ما بحثه العلماء في مسألة الثابت والمتغير والقطعي والظني،أعرض منهجية مقترحة لتفعيل تطبيق أحاديثه صلى الله عليه وسلم في المجالات الاقتصادية بالشكل العلمي السلمي والمواكب للظروف والمستجدات العصرية ،وذلك دفعا للاتجاهات التي حاولت وما زالت تحاول تعطيل السنة وهدمها ،وكذلك الاتجاهات التي حاولت الجمود عند ظاهر النصوص.
وتتلخص ملامح هذه المنهجية في النقاط التالية:
* 1- النظر في المقاصد الشرعية في موضوع الحديث.
* 2- النظر في درجة الحديث من حيث الصحة.
* 3- النظر في المناسبة وعمومها.
* 4- الآثار والأبعاد الاقتصادية المحيطة بموضوع الحديث
* 5- أقوال العلماء وشراح الحديث
* 6- الترجيح
ولا تعني هذه المنهجية إلغاء منهج الفقهاء في البحث الفقهي ،والذي يبدأ بتحرير محل النزاع ثم عرض الأدلة وتمحيصها وإظهار القوي منها من الضعيف ،ومدى انطباق دلالة النص على الواقعة ،ومحاولة الجمع بين النصوص إذا كان ممكنا..الخ ،وإنما هي محاولة اجتهادية تضيف إلى منهجية البحث الفقهي العوامل الاقتصادية بحيث تزيد من تجلية الحكم الشرعي ومطابقته للواقع الاقتصادي بالشكل الأمثل ([15]).
المطلب الخامس: السنة والأعمال الدنيوية:
تبين فيما سبق أن عادات النبي صلى الله عليه وسلم،وما كان يقوم به بمقتضى طبيعته البشرية كقيامه وقعوده وطعامه وشرابه ليست تشريعا ،وكذلك ما كان يكتسبه بمقتضى خبرته العملية الدنيوية ،والدليل موقفه يوم بدر عندما غير مكان المعركة بعد استشارة أحد الصحابة،وكذلك مسألة تأبير النخل ،فقد ورد"أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون،فقال لو لم تفعلوا لصلح قال فخرج شيصا،فمر بهم فقال ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال أنتم أعلم بأمر دنياكم"([16]) وفي رواية أخرى"وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: قال العلماء ( من رأيي ) أي في أمر الدنيا ومعايشها على التشريع ،فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعا يجب العمل به،وليس أبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله([17]).
وفي ظلال قوله صلى الله عليه وسلم"أنتم أعلم بأمر دنياكم"يمكن للمسلمين في كل عصر أن يختاروا أحدث وأكفأ الوسائل العلمية والتكنولوجية ويتبعوا أفضل السياسات الاقتصادية المؤدية إلى زيادة الإنتاج والنمو الاقتصادي ،كما يمكنهم أن يختاروا الطريقة المثلى والأسلوب العلمي الأفضل في تحقيق التقدم والرفاهية في كافة المجالات ،ما دامت هذه الوسائل والطرق والأساليب والسياسات لا تحل حراما أو تحرم حلالا..