بسم الله الرحمن الرحيم
الرضا الوظيفي بين الواقع والمأمول
بعد الإنتهاء من أحد الإجتماعات الربع سنوية التي تجرى عادة في إحدى الشركات التجارية الأهلية إختتم المدير العام للشركة الإجتماع بطلب من مدراء الأفرع والأقسام أن يؤكدوا على المندوبين والبائعين وأن يذكروا جميع الموظفين العاملين في الشركة بالخدمات والإمتيازات التي تقدمها الشركة للعاملين فيها والتي لاتقدمها عادة إلا شركات محترمة معدودة ، والتي شركتنا هي واحدة منها .
وقد تفاجأ الجميع بهذا الطلب ، لماذا يطلب المدير العام هذا الطلب ؟ مالمناسبة ؟ مالذي دعاه لطرح مثل هذا الموضوع ؟؟
وقبل أن ينتهي الحاضرون من إستحضار الجواب على هذا الطلب أتم المدير العام قائلاً : مع كل مانقدمه للموظفين في الشركة من رواتب وعمولات وحوافز ومكافآت وخدمات وإمتيازات صحية وإجتماعية ورياضية وتدريبية ، فإننا نسمع أن الكثير من الموظفين العاملين لدينا يشتكون ويتبرمون وهم غير راضين عن حالهم الوظيفي في الشركة ، إننا من أفضل الشركات تنظيماً إن لم نكن أفضلها في مجالنا الذي نعمل به ، والكثير من الموظفين العاملين في الشركات الأخرى يتمنون الإنتقال للعمل في شركتنا نظراً لما لشركتنا من سمعة طيبة بين الناس وبين التجار ، حتى أن أصحاب الشركات المنافسة الأخرى يعيبون علينا أننا كرماء أكثر من اللازم ، وأننا بهذا نحرض الموظفين العاملين لديهم كي يطالبوهم بتحسين وضعهم كي يصبح مساوياً أو مقارباً لوضع الموظفين العاملين لدينا .
ثم أكمل المدير قائلاً : ومع هذا فهناك من لايعجبه الوضع ، أرجو أن تشرحوا لموظفيكم هذا الأمر ، ثم أنذروهم بعدم الشكوى أو التبرم ، وإلا فستكون هناك عقوبات قاسية لمن يخالف الأمر.
بعد هذا الإجتماع جلس أحد المدراء يفكر ، لابد أن أحداً من داخل الشركة قد نقل للمدير العام بعض الكلام الذي يتداوله الموظفون بين بعضهم البعض ، أو أن أحد الموظفين تفوه ببعض الكلمات التي تدل على التضجر أو التذمر من الشركة أمام أحد الزبائن فانتقلت تلك الكلمات إلى المدير .
إذن هناك شرخ ما في العلاقة بين الشركة وموظفيها ، أو ان هناك شيء غير صحي يعاني منه بعض الموظفين يدعوهم إلى التذمر أوالشكوى .
ولكن ماحقيقة هذا التذمر ؟؟ هل هو شيء إيجابي أم سلبي ؟؟ هل هو دليل حقيقي أم وهمي على وجود خلل ما ؟؟ اين هذا الخلل ؟؟ هل هو في الأشخاص ؟؟ هل هو في الشركة ؟ هل هو في أماكن العمل؟
هل هو في طريقة إدارة العمل ؟؟ هل هناك خطأ في تنظيم أمور العمل ؟؟ هل هناك أخطاء في تطبيق أنظمة العمل ؟؟ هل الخطأ في الأنظمة المتبعة في العمل ؟؟ هل يحق للعاملين التذمر والتشكي ؟؟ لماذا لاتصل هذه الشكاوي إلى الإدارة العليا ؟ ولماذا تخرج هذه الشكاوي إلى الخارج بدل أن تجد مكانها الطبيعي وهو الإدارة العليا ؟؟
هل المشكلة قديمة أم حديثة ؟ هل هي طارئة ستزول بعد فترة قصيرة أم ستستشري بين الموظفين فتنعكس سلباً على أداء العاملين ؟؟ هل هي في قسم واحد أم في كثير من الأقسام ؟؟
ثم هل إذا ذكّرنا الموظفين بالمزايا والخدمات التي تقدمها لهم الشركة سيتوقف التذمر ؟؟ هل التهديد بالعقاب لمن يتشكّى سيحل المشكلة ؟ أم يجب البحث عن حل علمي أو على الأقل منطقي كي نوقف هذا التذمر ؟؟
فالمؤسسة التي تسعى إلى تحقيق مزايا تنافسية معتمدة على مواردها البشرية لابد وان تجري التحسينات المستمرة على بيئتها الداخلية,لا سيما برامج التطوير التي تركز على جودة حياة العمل المستندة على بناء أسس التفاعل الايجابي بين كل من الأفراد العاملين في مختلف المواقع الوظيفية من جهة, والسياسات والأنظمة المعتمدة لإحداث الموازنة بين الأدوار الوظيفة والنفسية والاجتماعية للأفراد العاملين من جهة أخرى.
أصبح الأمر في هذه الأيام أعقد مما كان عليه في السابق ، وأصبحت الإدارة علم يحتوي على تخصصات ، ويقوم على دراسات وإستقراآت وإستبيانات مثله مثل العلوم الأخرى ، الطب مثلاً ، ألا ترى أن الأطباء اليوم أصبحو لايكتبون الدواء لمرضاهم إلا بعد أن يتأكدوا من المرض ، وقد يحتاج تأكدهم إلى قياس ضغط الدم وتعداد النبض وتحليل الكريات ، والتصوير الشعاعي ، ............. .
إن حل أي مشكلة إدارية يتوقف على معرفة الأسباب التي أدت إلى هذه المشكلة ، وتاريخها ، وأبعادها وأماكن إنتشارها ، ولا يمكن معرفة الأسباب إلا بالبحث والسؤال والتقصي عنها .
إن عدم الرضا بمفهومه العام هي حالة نفسية أو ردة فعل تصيب الأشخاص بعد تعرضهم لظروف معينة مخالفة للمأمول أو المتوقع أو المتعارف عليه ، وتختلف ردود أفعال وتصرفات هؤلاء الأشخاص بإختلاف الأسباب أو المسببات ، كما قد تختلف بإختلاف التكوين النفسي ، وقد تختلف بإختلاف العقائد والديانات ، كما قد تختلف بإختلاف البيئة المحيطة للإنسان ، كما أنها تختلف بإختلاف المستوى التعليمي والثقافي للأفراد .
إن التذمر والتأفف هو شكل من أشكال عدم الرضا عن الواقع ، أو الإحباط من نتيجة عمل ما ، أو الوصول إلى نتيجة مغايرة للمتوقع ، فينقلب عدم الرضا هذا إلى تصرفات قد تأخذ أكثر من أسلوب ، منها الغضب المكبوت ، ومنها التضجر والتبرم ، ومنها إلقاء اللوم على الحظ أو الظروف أو الأيام أو الأشخاص ، وقد تتحول إلى تصرفات سلبية كأن يتوقف المتذمر عن متابعة الإهتمام بما كان يهتم به سابقاً ، ويبدأ في تجاهل الواجبات المفروضة عليه وقد يلجأ الشخص اللاراضي إلى الإنسحاب من أمام المهمات المكلف بها ، ويبدأ بالإبتعاد عن المكان الذي سبب له هذه الحالة ، أما إذا كانت حالة عدم الرضا قوية فإن بعض الأشخاص قد يلجأ لإستعمال العنف كرد فعل قوي على الحالة التي أصابته .
إن عدم الرضا الوظيفي واحدة حالات عدم الرضا التي تصادفنا في حياتنا اليومية ، وهي حالة أكثر ما تنتشر في المؤسسات والشركات الخاصة ، وكثيراً ماتصيب العاملين في مؤسساتنا بدون أن ننتبه إلى ذلك .
أما أسباب عدم الرضا الوظيفي فيعود إلى كثير من العوامل التي تصادف العامل أو الموظف خلال عمله اليومي ، منها مثلاً وضع الموظف في مكان غير ملائم لإمكاناته وقدراته ، أو بسبب عدم إنسجامه مع رفاقه في القسم ، أو بسبب بعض تصرفات مديره المباشر ، أو لتحميله اعباء ومسؤوليات أكبر مما يستطيع ، أو بسبب العمل لأوقات طويلة بدون أجر إضافي ، أو بسبب البيئة الغير صحية للعمل كتلوث المكان أوالحر الشديد ، أو .. أو .. .
إن على أي مدير موارد بشرية أو مدير مؤسسة أو شركة أن يراجع بين الحين والآخر تقارير جداول الحضور والإنصراف ليتأكد إن كان هناك أي خلل في حضور الموظفين في قسم من الأقسام أو فرع من الأفرع ، فإن وجد أن هناك نسبة عالية من التأخير في الحضور أو نسبة عالية من التبكير في الإنصراف ، أو نسبة عالية من التغيب ، أو نسبة عالية من الدوران الوظيفي ( ترك العمل نهائياً ) فلا بد أن يبحث عن السبب ، ويكون غالباً مرده إلى عدم الرضا الوظيفي .
إن كثيراً من الشركات التي تعاني من إنخفاض معدل إنتاج العامل الفرد فيها ، أو معدل الإنتاجية بشكل عام يعود إلى وجود حالات متقدمة من حالات عدم الرضا الوظيفي ، كما يضاف إلى هذا إنخفاض إنتاجية الموظفين نتيجة التأخر أو الغياب أو الدوران الوظيفي ، وهناك خطر آخر قد تتعرض له الشركة أو المؤسسة من الداخل ، الا وهونشوء جماعات وتشكيلات ضغط غير نظامية داخل الشركة أو المؤسسة يجمعها هدف واحد وهو عدم الرضا الوظيفي ( يحدث ذلك في الأماكن التي لايوجد فيها ممثلين للعمال لهم في مجلس الإدارة مثلاً ) ، وعادة ماتكون هذه التشكيلات أكثر تماسكاً وإلتزاماً فيما بينها من الهيكل التنظيمي للشركة ، حيث أنها تستطيع أن تعرقل تنفيذ الأوامر الإدارية أو أوامر التشغيل عن طريق تجاهلها أو عدم تنفيذها بالصورة المطلوبة ، ففي إحدى الشركات العاملة بمواد البناء إستطاعت مجموعات الضغط التي نتكلم عنها أن توقف تنفيذ أمر فصل أحد الموظفين الذين صدرت بحقه من الإدارة العامة مذكرة فصل عن العمل نتيجة ضربه لرئيسه المباشر إثر خلاف بينهما أثناء العمل ، فتوقف العمال عن العمل بصورة جماعية ولم يعودوا للعمل إلا بعد تخفيف عقوبة العامل المشاغب .
هناك أمر آخر يجب ان ينتبه له مدراء الشركات أو مسؤولي الموارد البشرية ، وهو أن عدم الرضا هو مرض معدي ، ينتقل من الموظفين القدامى إلى الموظفين الجدد الذين لايعرفون مسبقاً شيئاً عن الشركة مما يجعلهم في خوف وترقب من القادم فلا يحسون بالطمأنينة ويقضون فترة التجربة المتفق عليها في حذر قد ينقلب إلى ترك العمل عند أول فرصة تأتيهم من الخارج .
وقد لاحظنا أن الكثير من مندوبي الشركات الذين يعانون من عدم الرضا عن شركاتهم يتجولون وهم ينشرون هذا الخبر ، أو يمكن لك أن تشعر به عند سؤالهم لك عن شركة تحتاج إلى موظفين ، وبالتالي فإن هذه الشركات التي ينتشر بها عدم الرضا لن تستطيع إستقطاب العمالة المميزة أو الكفوءة .
محمد نشوان الأتاسي
المركز العربي للدراسات الإدارية
جدة