ولما بلغت المعلومات إلى القائد المسلم (كمشتكين ) بهذا التحرك , أرسل جواسيسه لرصد تحركاتهم بدقة وتربص لهم في المكان المناسب .
وصل ( بوهيمند) على رأس قواته إلى قرب (ملطية) وبين التلال التي تفصل ( ملطية ) عن وادي ( امتسو) - أحد الفروع العليا لنهر الفرات - كان قد كمن فيها ( كمشتكين) و جنوده الأبطال ، فانقض عليهم في هجوم صاعق من أعالى التلال ، و طوق قوته ، و بعد قتال قصير انهارت قوات ( بوهيمند) و قتل معظم الصليبيين ، ووقع (بوهيمند) و ابن عمه (ريشارد) و غيرها من الفرسان في الأسر , وكان ذلك في شهر رمضان عام 493 هـ , ثم تقدم (كمشتكين) بعد هذه المعركة بجيشه رافعاً رؤوس القتلى من الصليبيين و حاصر ( ملطية ) .ويعتبر هذا النصر الذي حققه (كمشتكين) هو أول انتصار يحققه المسلمون على الصليبيين منذ وصول الحملة الصليبية الأولى عام 490 هـ .
ولاشك أن هذا الانتصار رفع من الروح المعنوية لدى المسلمين بعد الهزائم المتلاحقة , مما أحدث قناعة بإمكانية إعادة الأمجاد وتحقيق انتصارات أخرى عليهم . إن أشد ما يضر بالأمم في مثل هذه الأزمان هو الوقوع في شباك الهزيمة النفسية .
• أما الصليبيون في الشرق الاسلامي ، فقد شعروا بالخطر من نقص القوات البشرية ، وحاجتهم إلى إمدادات عسكرية , فأرسلوا إلى أوروبا يستغيثون و يطلبون المدد .
وضجت أوربا لنداء البابا ( باسكال الثاني ) الذي بعث برسالة إلى رجال الدين الفرنسيين ، و نشر دعاته في أوروبا يأمرهم بالدعوة إلى حملة صليبية جديدة . وأعلن البابا غفران ذنوب كل من يشترك في الحملة الصليبية الجديدة ( فاستخف قومه فأطاعوه ) الزخرف(54)
فعاد رجع صدى البابا بحملة صليبية ثانية بلغ قوامها ثلاثمئة ألف مقاتل .
الحملة الصليبية الثانية :
وجاءت الحملة الصليبية الثانية , وعلى الرغم من أن الهدف الرئيسي لهذه الحملة هو الوصول إلى الأراضي المقدسة في الشام , إلا أنه وبعد ضغوط من غالبية الجيش توجهت الحملة إلى جبال ( بنطس ) في شمال شرق الأنضول لإطلاق سراح ( بوهيمند) الذي كان مسجوناً هناك ، و انتزاع بلاد الشام من (كمشتكين) .
فكيف استطاع (كمشتكين) مواجهة هذه الحملة ببضعة آلاف من رجاله : إنها الثقة بالله وبنصره للمؤمنين , وإعداد المستطاع من القوة , والدعاء , ثم الصبر والثبات ( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) البقرة (250 ) وما أحوج المسلمين اليوم وهم يواجهون حملات صليبية متتالية إلى تأمل التكتيك الذي قام به هذا القائد الفذ أمام هذا العدوان الوحشي على بلاد المسلمين .
لما علم (كمشتكين) بتوجههم نحوه أتخذ أغضل الخطط العسكرية , فلم يُقْدِم على الاشتباك بهم مباشرة , بل أمر بإخلاء المدن والبلاد الواقعة على طريقهم ، وإحراق المؤَن والأقوات ، وذلك حتى يحل التعب والإعياء و الجوع بهم ، ثم يتم استدراجهم إلى المناطق الوعرة والحصينة .. حتى إذا تعبوا انقض عليهم الأتراك المسلمون كالأسود .
تقدم الصليبيون و استولوا على أنقرة وقتلوا كل من كان بها من المسلمين ، ومضى الصليبيون في طريقهم فقاسوا من التعب و الجوع ما قاسوا ، وازدادت متاعبهم بسبب حرارة الصيف الشديدة في هضبة الأنضول . ثم توجهوا نحو الشمال الشرقي إلى ( قصطمونية) غير أن تحركهم إليها كان بطيئاً و قاسياً إذ عمد الأتراك المسلمون إلى تدمير كل المحاصيل ، إضافة إلى نفاذ الماء عبر الصحراء ، زد على ذلك ما يجدون من الغارات تلو الغارات التي يشنها عليهم المسلمون .
وحدث مرة أن خرجت فرقة من الصليبيين بهدف جمع حبوب الشعير و النباتات التي لم تنضج بعد والتفاح البري ، فطوقهم المسلمون في حرش كبير ، و أحرقوه عليهم و أبادوهم عن أخرهم , مما أجبر الجيش الصليبي على أن يمشي كتلة واحدة وهذا يضاعف من معاناته .
وخارج أخرجه حب الطمع *** فرَّ من الموت وفي الموت وقع