إن السبب الأساسي للانهيار المالي الراهن إنما يكمن في أزمة الرهن العقاري التي كانت بدايتها منذ أن كان الان جرينسبان يدير الخزانة الأمريكية. لقد ظل جرينسبان يدير الاقتصاد الأمريكي على مدى[size=18] سنوات حكم جورج بوش وذلك عبر تنشيط تسهيلات القروض والاقتراض من الخارج. بيد أن جذور الأزمة الراهنة أعمق من ذلك بكثير.
إن الجذور الحقيقية تكمن في جزء كبير منها في النشوة الكبيرة التي سادت الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة تفوق الأيديولوجيا الرأسمالية الليبرالية خلال الثلاثين سنة الماضية. أي تحرير الأسواق الاقتصادية بأقصى ما يمكن وتهميش دور الدولة. إن مثل هذه الاستراتيجية زادت بطبيعة الحال من المخاطر وقللت من الدور الرقابي وهي تهدد اليوم بالتسبب في أكبر أزمة مالية يعرفها العالم منذ أزمة .1929 ومثلما هو متوقع فإن تلك القطاعات التي استفادت أكثر من غيرها من سياسة الليبرالية المالية والاقتصادية هي القطاعات نفسها التي تنادي اليوم بتدخل الدولة من أجل إنقاذ المؤسسات المالية والمصارف التي تقف على حافة الانهيار والإفلاس. إن تدخل الدولة جزء لا يتجزأ من رأسمالية الدولة رغم أن أبعاد الأزمة الراهنة غير مألوفة.. لقد أظهرت دراسة مهمة أعدها عالما الاقتصاد روجروك وروب فان تولد قبل 11 سنة ان ما لا يقل عن 20 شركة لم تكن لتحافظ على بقائها لو لم تتدخل الحكومات لإنقاذها. كما أن الكثير من الشركات الأخرى استفادت من تدخل الدول والحكومات من أجل توزيع خسائرها وإذابتها في المجتمع، وهو ما يتجلى اليوم في خطة الإنقاذ التي طرحها جورج بوش والتي تطلبت تخصيص 700 مليار دولار من أفعال دافعي الضرائب. إن تدخل الدولة بهذا الشكل كان يمثل دائما القاعدة وليس الاستثناء على مدى القرنين الماضيين من النظام الرأسمالي الليبرالي. في المجتمع الديمقراطي لابد لأي حملة سياسية أن تتصدى لمثل هذه القضايا فتشخص أسبابها وجذورها وتقترح طرائق علاجها من أجل تخفيف معاناة الناس بما يمكنهم من استعادة زمام حياتهم. إن السوق المالية الرأسمالية تستهين بحجم الأخطار، ذلك ما كتبه عالما الاقتصاد جون ايتول ولانس تايلور قبل عقد من الزمن وقد حذرا منذ ذلك الوقت من خطر الإفراط في تحرير النظام المالي والمصرفي الرأسمالي كما اقترحا الحلول اللازمة التي تم تجاهلها على مدى هذه الأعوام الطويلة. إن هذا النظام الرأسمالي الليبرالي لم يأخذ في اعتباره الأخطار التي يتعرض لها أولئك الذين لا يشاركون في مثل هذه الصفقات.. إن هذه الخسائر قد تكون ضخمة وتتجاوز كل تقديرات. إن تجاهل مثل هذه الأخطار إنما يؤدي إلى المجازفة أكبر مما يزيد من حجم الأخطار. لطالما كتب العلماء وقالوا إن النظام الليبرالي المالي يمثل أقوى الأسلحة المناهضة للديمقراطية الحقيقية، فحركة رأس المال الحرة تؤسس ما سماه البعض «البرلمان الافتراضي« الذي يضم في صلبه المستثمرين والدائنين الذين يتحكمون بذلك في البرامج الحكومية ويصوتون ضدها إذا لم تخدم مصالحهم رغم أن هذه البرامج تخدم قطاعات واسعة من الناس وتعمل على تفادي تركيز السلطة في القطاع الخاص. كيف يصوت هؤلاء المستثمرون والدائنون؟ إنهم بكل بساطة يؤثرون في دوائر صنع القرارات السياسية والاقتصادية ويؤثرون في حياة كل واحد منا من خلال استغلالهم للثغرات التي يتيحها لهم النظام الرأسمالي الليبرالي، فيهربون العملة والأموال ويهاجمون العملات ويضاربون عليها إلى غير ذلك من الحيل والمناورات الأخرى. لهذا السبب فإن نظام بريتون وودز الذي أرسته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية قد وضع مؤسسات وسن أدوات وتشريعات للتحكم في حركة رؤوس الأموال وتقنين العملات. لقد جاءت أزمة 1929 والحرب العالمية الثانية لتولد تيارات ديمقراطية راديكالية مثل الحركات المناهضة للفاشية وتنظيم الطبقة العاملة. هذه الضغوط جعلت من الضروري وضع سياسات اجتماعية ديمقراطية. إن نظام بريتون وودز كان يهدف في جانب كبير منه إلى تكوين مساحة أو هامش للعمل الحكومي والحفاظ على قدر من الديمقراطية. لقد اعتبر المفاوض البريطاني جون مينارد كينس أن أهم إنجاز حققه نظام بريتون وودز هو أنه فرض حق الحكومات في تقييد حركات رأس المال. خلال المرحلة الليبرالية التي أعقبت انهيار نظام بريتون وودز في السبعينيات أصبحت الخزانة الأمريكية تعتبر أن حرية حركة رؤوس الأموال تمثل جزءا أساسيا من الحقوق الرأسمالية الجوهرية على عكس تلك الحقوق الأخرى المزعومة التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثل الصحة والتعليم والشغل الكريم والأمن وبقية الحقوق الأخرى التي عملت إدارتا رونالد ريجان وجورج بوش على هدمها وتقويضها واعتبارها مجرد أساطير وهمية. في السنوات الأولى لم يشكل الرأي العام أي مشكلة. في القرن التاسع عشر تم تسييس الحكومات جراء الانتخابات العامة وظهور النقابات والأحزاب العمالية البرلمانية. بعد الأزمة الخانقة التي هزت العالم سنة 1929 والحرب ضد الفاشية أصبح هذا الرأي العام أكثر راديكالية لذلك فقد تم وضع قيود على حركة رؤوس الأموال عوض فرض مثل هذه القيود على الديمقراطية التي اعتبرت من أهم أدوات الدفاع عن المجتمع ضد ضغوط السوق. عقب تفكيك النظام الذي أرسي بعد الحرب العالمية الثانية (أي نظام بريتون وودز) الذي يضم منظمة الأمم المتحدة على وجه الخصوص أصبحت الديمقراطية مقيدة فيما تحرر رأس المال، لذلك فقد أصبح من الضروري في ظل العقيدة الرأسمالية الحالية مراقبة الرأي العام والعمل على تهميشه بطريقة أو بأخرى وهي عملية تظهر خاصة في بعض المجتمعات الرأسمالية حتى النخاع مثل الولايات المتحدة الأمريكية. يقول الفيلسوف الاجتماعي الأمريكي في القرن العشرين جون ديوي: إن السياسة بمثابة الظل الذي يلقيه رأس المال على المجتمع. سيظل الأمر كذلك طالما أن رجال السياسة يمثلون مجرد أدوات لخدمة دوائر رأس المال والأعمال اللاهثة وراء الكسب والربح من دون أي اعتبار آخر وذلك من خلال التحكم في النظام البنكي والأراضي الصناعية وتعزيز ذلك من خلال التحكم في الصحافة والعاملين فيها وشراء بقية أدوات الدعاية الأخرى التي تعمل على تهميش الرأي العام وغسل دماغه. إن الولايات المتحدة الأمريكية تمثل دولة الحزب الواحد. إنها دولة حزب المال والأعمال الذي يحمل وجهين أو يتجسد في فصيلين اثنين وهما الجمهوريون من ناحية والديمقراطيون من ناحية أخرى. هناك فوارق بينهما. في الدراسة المهمة التي أعدها بعنوان «ديمقراطية اللامساواة: الاقتصاد السياسي والعصر الذهبي الجديد«، يذكر لاري بارتيلز كيف أنه خلال العقود الستة الماضية تضاعف الدخل الحقيقي للعائلات المتوسطة مرتين في ظل حكم الديمقراطيين أكثر منه في عهد الجمهوريين فيما تضاعف دخل العائلات الفقيرة ست مرات في عهد الديمقراطيين أيضا.
*