الجزء الأول: المؤسسات المالية المصرفية
أسباب ظهور المؤسسات المالية المصرفية أو المصارف:
تنقسم المجتمعات الإنسانية منذ القديم إلى فئتين فئة الفائض وتتكون من أولئك الأفراد الذين يتوافر عليهم مدخرات تفيض عن حاجتهم الآنية، وفئة العجز وهم الذين يحتاجون إلى أموال لغرض الاستثمار مثل التجار وأرباب الصناعة...الخ.
كانت العلاقة بين هاتين الفئتين في القديم مباشرة، حيث يتم نقل الفوائض المالية إلى فئة العجز من خلال هيكل العلاقات الاجتماعية القائمة كالقرابة والجوار والصداقة والانتماء إلى نفس المهنة أو القبيلة...الخ حيث تكون المعلومات الصحيحة في متناول الفرد كما أن لديه والقدرة على المتابعة والمراقبة والتحصيل بصفة مباشرة. إلا أن مثل هذا الترتيب كان عاجزاً عن النهوض بحاجات المجتمع بعد أن توسعت النشاطات الاقتصادية وكبر حجم المجتمعات فلم يعد ممكناً للفرد أن يتحقق من صحة المعلومات التي يقدمها مستخدمو الأموال كما لا يتمكن من المتابعة والتحصيل للقروض والمشاركات إلا بتكاليف باهظة. فولدت البنوك التجارية كمؤسسات غرضها الأساس التخصص في التحليل الائتماني وتحقيق اقتصاديات الحجم الكبير في جمع المعلومات وتحليلها فأصبحت وسيطاً مالياً يعزل فئة العجز عن فئة الفائض. فأرباب الأموال ليس عليهم إلا الاطمئنان إلى المؤسسة المصرفية التي يودعون أموالهم لديها القدرة المالية لرد أموالهم إليهم عند حلول الأجل ولا حاجة بهم إلى الاهتمام بالاستخدامات النهائية لأموالهم، ذلك يعود إلى أن المؤسسة المصرفية تضمن الأموال لأولئك المودعين لأنها تحصل عليها على أساس القرض فتستفيد هي من قدراتها الفائقة في جمع المعلومات وتحليلها. فالمخاطرة التي يتحملها المدخر هي مخاطرة البنك فقط أما مخاطرة الاستثمار فيتحملها بصورة مباشرة البنك وحملة أسهمه وليس المدخر.
وجلي أن هذا التطور أي ظهور البنوك التجارية إنما وقع بسبب التكلفة العالية للحصول على المعلومات فكان طبيعياً لما تحسنت سبل الاتصال وارتقت وسائل الحصول على المعلومات وتطورت أسواق المال بحيث أضحت وعاء تتجمع فيه المعلومات الصحيحة والدقيقة والآنية عن أحوال الأسواق ووضع الشركات...الخ. عند توفر ذلك كله اتجه المدخرون مرة أخرى إلى الرغبة في إلغاء دور الوسيط المالي (البنك التجاري) والاتجاه مباشرة إلى مستخدمي الأموال أي إلى فئة العجز. إن الفرق الأساس بين استثمار الأموال في البنك التجاري واستثمارها في أسواق المال هو أن المدخر يتحمل من خلال هذه الصلة المباشرة مخاطرة استخدام الأموال بنفسه ولذلك جاءت الصناديق الاستثمارية لكي توفر لملايين المدخرين هذه الفرصة. فلا غرابة أن نجد أن دور البنوك التجارية في كثير من دول العالم وبخاصة في الولايات المتحدة في انحسار مستمر منذ عقدين من الزمان، وظهر التزايد المستمر في الاستثمارات المباشرة التي يتحمل فيها أرباب الأموال مخاطرة الاستخدام النهائي لأموالهم. وتدل الإحصاءات على أن عدد البنوك التجارية في الولايات المتحدة سنة 1984م كان 14496 انخفض في سنة 1993م إلى 10959فقط أي أكثر من 30%. كما أن نصيب البنوك التجارية من الأصول المالية كان يساوي 40% في الولايات المتحدة سنة 1973م انخفض إلى نحو 24% سنة 1993م.