الفقر في الزمان القديم :
"كاد الفقر أن يكون كفراً" ، وهو كذلك في كل زمان ولكنه في الأزمنة القديمة كان يعني الفاقة ، والمجاعات التي تعصف بحياة آلاف البشر ، كان يعني العري وان يعدم الإنسان اللقمة التي تسد رمقه . ولقد كانت قطاعات كبيرة من المجتمعات القديمة تعيش في حلقات مفرغة من الفقر (مثل سكان الصحراء) ، ولذلك نجد اشارات الفقهاء القدامى إلى الفقر تحمل هذا المعنى في كلامهم عن مواساة المحتاجين والحقوق العارضة في المال غير الزكاة كستر العاري واشباع الجائع وفك الأسرى . فقد حدد الفقهاء الموسر بمن عنده زيادة على كفاية سنة له ولمن يعول وما يحتاج إليه من آلة محترف أو كتاب فقيه . وأوجبوا المواساة على من كان "له وظائف يتحصل منها ما يكفيه عادة جميع السنة ويتحصل عنده زيادة على ذلك" (حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج ج8 ص49) . أما اليوم فالأمر بالغ الاختلاف ، إذ تعيش أكثر مجتمعات الأرض في قدر من رغد العيش لم يصل إليه الأغنياء في الزمان القديم ، فالمجاعات لا زالت موجودة ، ولكنها محصورة في بلدان قليلة جداً ، والحد الأدنى من العيش متوافر للسواد الأعظم من الناس اليوم ، إضافة إلى ذلك فإن أساسيات الحياة مثل الرعاية الصحية الأولية ، ومياه الشرب والبنية الأساسية من طرق عامة ومدارس ووسائل اعلام يكاد يتوفر لأكثر الناس في بلدان العالم اليوم.
ولقد أدى وجود مؤسسة الدولة الحديثة - مع كل ما يقال عنها - إلى قدر كبير من تكافؤ الفرص في أكثر مجتمعات الأرض . فلم يعد الفقر والغنى نسب ورحم كما كان في الزمان القديم . ولذلك فقد صارت صورة الفقر اليوم وصفته هي البطالة التي تعاني منها أكثر مجتمعات المسلمين .
البطالة هي المشكلة الاجتماعية الأولى في مجتمعات المسلمين اليوم :
تعد البطالة المشكلة الاقتصادية والاجتماعية الأكثر خطراً في مجتمعات المسلمين اليوم . وتصل معدلات البطالة في بعض البلاد الإسلامية مستويات عالية مقارنة بالدول الأخرى فتصل إلى أكثر من 25% في بعض هذه البلاد ، وتصل بين الشباب (من يقل عمره عن 25 سنة) إلى نحو 50%، بل أن نسبة العاطلين عن العمل من المتعلمين (جامعي أو ثانوي) يمثل في بعض هذه البلاد قريباً من 70% من جملة البطالة([5]) فيها .
الآثار السيئة للبطالة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع :
للبطالة آثار مدمرة على الفرد وعلى الأسرة وعلى المجتمع . ان الفرد البطال عن العمل انسان يعيش في قلق دائم وتوتر مستمر ، ويحيط به اليأس والاحباط وبخاصة عندما يطول بحثه عن العمل وهو لا يجده مع توافره على القدرة عليه وعلى الصحة والشباب . وما أسهل أن يقع في شراك الرزيلة ، وان يهبط في مهادي المخدرات فينقلب إلى خطر يهدد السلام الاجتماعي وأداة للجريمة وزعزعة الأمن فيه . ولذلك نجد الرزيلة والسرقة والمخدرات تنتشر أكثر ما تنتشر مع زيادة معدل البطالة في أي مجتمع . أما على الأسرة ، فإن البطالة أحد أهم أسباب تفكك الأسر في يوم الناس هذا . ذلك أن رب الأسرة غير القادر على النهوض بحاجاتها سرعان ما يفقد القدرة على رعايتها . ولطالما قرأنا على ارتباط نسبة الطلاق بالبطالة وما يترتب على ذلك من تشرد الأبناء وغربة النساء ، أما على المجتمع فالبطالة تعني عجز المجتمع من الاستفادة الموارد الاقتصادية المتاحة له وبخاصة المورد الأساسي وهو الانسان وما يترتب على ذلك من تفكك المجتمع وزيادة معدلات الهجرة من الريف إلى المدن مما يزيد المشكلة خطراً بإنهيار قطاع الزراعة وبتركز السكان في المدن . ولذلك نجد البطالة واحداً من أهم أسباب عدم الاستقرار السياسي في الدول .
البطالة في حياتنا المعاصرة هي معنى من معاني الفقر :
ان الفقر في حياتنا المعاصرة هو البطالة .ليس فقط ان البطالة تؤدي إلى الفقر والفاقة في كثير من حالاتها ، بل حتى في الحالات التي يتوافر على الفرد الموارد التي تخرجه من حالة الفقر المدقع يبقى للبطالة معنى من أهم معاني الفقر في حياة المجتمعات اليوم .
والزكاة ومصارفها جميعاً تتصف بالفقر الدائم أو المؤقت (عدا العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) وذلك كان ملائماً أن تتوجه الزكاة اليوم لتمثل سياسة اقتصادية إسلامية للقضاء على البطالة وإستهداف معايير ومؤشرات كلية لتحقيق هذا الغرض ، وتوجيه الدراسات الفقهية لدعم ذلك التوجه وإضفاء ما يحتاج إليه من المشروعية . ان بناء النظام الاقتصادي الإسلامي اليوم يحتاج إلى تصميم السياسات الاقتصادية التي تجعل من أركان هذا النظام وعناصره الأساسية أدوات فاعلة لبعث الحياة فيه وضمان البقاء له .
معالم السياسة الاقتصادية التي تقوم على جعل الزكاة أداة لمعالجة البطالة :
تقوم هذه السياسة على جعل موارد الزكاة أداة لتوليد فرص العمل التي تؤدي إلى معالجة مشكلة البطالة ومعالجة هذه المشكلة الاجتماعية التي تهدد السلام الاجتماعي واستقرار حياة مجتمعات الاسلام المعاصرة ، تستلهم روح فريضة الزكاة وتنهض بأغراضها ومقاصدها التي تسعى إلى القضاء على الفقر بكل صوره واشكاله . ويقوم ذلك على تكوين هيئة إستثمارية تشرف على توجيه أموال الزكاة نحو إنشاء المشاريع التي تخلق الفرص الوظيفية في المجتمع ، تلك التي يستفيد منها العاطلون عن العمل بمعايير وشروط وإجراءات تحقق الغرض الأساس وهو القضاء على الفقر . وربما كان ذلك على صفة أعمال مؤقتة يستفيد منها الفرد ريثما يجد الفرد فرصة عمل ثابتة في مكان آخر فتكون الزكاة أداة لمعالجة هذا الوضع المؤقت، كما يمكن تبني إجراءات ومعايير أخرى تمنع خروج الاستمارات الزكوية عن مسارها المرسوم وغرضها المحدد وهو محاربة الفقر ومعالجة مشكلة البطالة .
المشروعية :
الأصل في الزكاة التمليك ، إذ لا تبرأ ذمة المزكي في نظر جمهور الفقهاء إلا بتمليك مال الزكاة إلى الفقير مباشرة أو تسليمها إلى من يوليه ولي الأمر جباية أموال الزكاة . ولذلك كان اسلوب اخراج الزكاة الذي سار عليه المسلمون في تاريخهم هو إقباض الفقير مال الزكاة لكي يصرفه في أغراضه ومنافعه مباشرة لا أن يستخدم هذا المال في إنشاء المشاريع التي تكون مملوكة لجهة أخرى غير الفقراء حتى لو إتجه نفعها إلى الفقراء بصفة غير مباشرة . وعلى ذلك فإن ما قدمناه من إقتراح يحتاج إلى النظر في مشروعيته ويحتاج إلى نظر فقهي معاصر . على أن المؤيدات الشرعية لهذا الذي إتجهنا إليه كثيرة ومتعددة منها :
1- قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورة مؤتمره الثالثة سنة 1408هـ بشأن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك للمستحق وهذا نصه :
"يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع إستثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة أو تكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد من الخسائر" .
2- ان الفقهاء نصوا منذ القديم على أن مقدار ما يعطى للفقير من الزكاة يكون ما فيه كفاية العمر ومنهم من قال كفاية سنة . وان من كان ذا حرفة أعطي ما يشتري به أدوات حرفته قل ذلك ام كثر كل ذلك يدل على أن المقصد الأصلي للزكاة هو إخراج الفرد من ربقة الفقر والعوز والحاجة إلى الناس إلى حرية الاعتماد على النفس والغني الذي يجعله قادراً على كفاية نفسة . ولا يتحقق مثل ذلك في يوم الناس هذا إلا بالعمل ، ولذلك كان توفير فرص العمل أنجع السبل إلى تحقيق الغاية والوصول إلى المقصد .
الحواشي
[1] - لسان العرب لابن منظور .
[2] - النهاية في غريب الحديث والأثر ص703 .
[3] - الروض المربع ص531 .
[4] - Sharp , et al , Economics of Social Issues , 1994 P.267 , NewYork, Ivwin,
[5]- أنظر في تفصيل ذلك د. رمزي زكي الاقتصاد السياسي للبطالة ، الكويت عالم المعرفة 1997م .