يلحظ أن بعض تلك الإجراءات يحقق الأهداف المعلنة لتلك السياسات وبعضها لا يحققها ، ومن ناحية أخرى قد يكون ذلك الإجراء مقبولا اقتصاديا وليس مقبولا اجتماعيا . ولنا بعض الوقفات والانتقادات لهذه السياسات .
ففيما يتعلق بسياسات معالجة العجز في الموازنة العامة للدولة يلحظ ما يلي :
1ـ أن تخفيض النفقات العامة يخفض العجز في الموازنة العامة وهو إجراء لا بأس به ، وبخاصة أن القطاع العام في الدول النامية يعاني بطالة مقنعة، وفسادا إداريا وماليا ، مما يتطلب تخفيض النفقات العامة، وتقليص حاجة الدولة إلى الاقتراض وبخاصة من القطاع المصرفي . إلا أنه قد يترتب عليه عزل بعض العمال والموظفين الحكوميين ، ومن ثم زيادة نسبة البطالة في المجتمع وما يترتب على ذلك من مشكلات .
2ـ أن مسألة تحرير الأجور والأسعار وجعلها خاضعة للعرض والطلب ، يؤدي إلى توزيع الموارد الاقتصادية توزيعا أفضل . إلا أن بعض الإجراءات المقترحة كإلغاء الدعم وزيادة أسعار المنتجات العامة ، قد تؤدي إلى زيادة التضخم وليس إلى تخفيضه كما هو معلن ، وذلك يؤدي إلى عواقب وخيمة من الناحية الاجتماعية ، إذا لم يصاحبه حلول وسياسات تخفف من وطأة هذه الإجراءات على الفئات الفقيرة في المجتمع ، وهو ما لا وجود له في سياسات منظمات العولمة الاقتصادية .
3ـ يلحظ المطالبة بتخفيض الضرائب المباشرة على أرباح الشركات والاستثمارات الأجنبية، مما يخف العبء عن الأغنياء ، وفي الوقت نفسه، المطالبة بزيادة الضرائب غير المباشرة مع أن عبئها الأكبر يقع على الفقراء .
أما سياسات منظمات العولمة الاقتصادية لمعالجة أو تضييق الفجوة بين الادخار والاستثمار . فلا تسلم أيضا من بعض المآخذ على النحو التالي :
1ـ أن معدل الفائدة ، سياسة غير مجدية ؛ لأن ارتفاع الفائدة يجعل المستثمرين يحجمون عن الاقتراض ومن ثم الاستثمار ، فالبنوك تضع معدلا مرتفعا للفائدة من أجل تشجيع أصحاب الأموال على إيداع أموالهم لديها ، إلا أن هذا المعدل المرتفع يجعل المستثمرين يمتنعون عن اقتراض تلك الأموال من البنوك ؛ لأن ارتفاع معدل الفائدة سيزيد سعر إنتاجهم من السلع والخدمات ، إضافة إلى عدم التأكد من نجاح المشروع، فتبقى المدخرات حبيسة البنوك ، أو تحول إلى أسواق المال العالمية بحثا عن معدل فائدة أعلى من المعدل المحلي ، مما يؤدي إلى انخفاض المتاح من الموارد المالية وتقليص الاستثمارات المحلية والأجنبية ، بل إن رفع معدل الفائدة قد لا يؤدي إلى رفع سعر العملة وإنما إلى انخفاضها ، ويضر النمو الاقتصادي.
فالفائدة والحال هذه ، تؤدي إلى ظهور فجوة في الاقتصاد بين الادخار والاستثمار، وليس تضييق هذه الفجوة .
2ـ أن تطوير السوق المالية وحرية حركة رؤوس الأموال سلاح ذو حدين . فقد يؤدي إلى توجيه المدخرات إلى أوجه الاستثمارات المطلوبة كما هو معلن ، وقد يؤدي إلى خروج هذه المدخرات إلى الأسواق العالمية التي تعلن فرصا أكثر وعائدا أكبر ، ومن ثم تبقى الفجوة بين الادخار والاستثمار كما هي بل ربما تزداد.
3ـ ومثله أيضا تشجيع الاستثمارات الأجنبية فإنها تعتمد على سيطرة الدولة المضيفة واستقلاليتها في اتخاذ القرار وقدرتها على الاستفادة من تلك الاستثمارات، وإلا فإنها لن تكون إلا لمصلحة البلدان التي جاءت منها؛ لأن فتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية ، سيجعلها تستفيد من مزايا ليست موجودة في بلدانها مثل رخص الأيدي العاملة في البلدان النامية ، الذي يحقق لها أرباحا كبيرة تحولها إلى بلدانها ، ولا يحصل البلد المضيف إلا على جزء يسير منها.
والملاحظ أن هذه السياسات يرتبط بعضها ببعض ويكمل بعضها بعضا. فترك معدل الفائدة في الدول النامية يتحدد حسب العرض والطلب سيؤدي ـ في نظر خبراء هذه المنظمات ـ إلى ارتفاع سعرها لكي يغطي معدل التضخم مما يؤدي إلى جذب المدخرات إلى أسواق المال في البلدان النامية ، وتلك الأسواق المالية ، يجب أن تطور وتعطى مزيدا من الحرية وعدم التقييد ، لكي يكون انسياب الأموال إليها سهلا وخروجه منها سهلا كذلك ، وفي الوقت نفسه ، فإن جذب المدخرات وتحرير الأسواق المالية في تلك البلدان، سيسهل جذب الشركات الأجنبية ، التي ينبغي إزالة الحواجز التي تعترضها ، لكي تستطيع استيعاب تلك الأموال وتوجيهها إلى الاستثمار ، وتكون النتيجة في النهاية هي القضاء على فجوة الموارد المحلية في الدول النامية أو على الأقل تضييقها إلى أقل ما يمكن .
إلا أن هذا التحليل النظري ، لا يكفي لإزالة الشكوك في مدى صدق تلك السياسات . وإذا دققنا النظر ، وجدنا أن فيها فوائد منها توفير المزيد من الموارد، إلا أن آثارها السيئة قد تفوق فوائدها ، فالمحصلة النهائية لذلك، هي ارتفاع الأسعار في وقت تنخفض فيه الأجور ، ويعزل فيه المزيد من العمال والموظفين الحكوميين ، وهذا يعني ـ اقتصاديا على الأقل ـ انخفاض الطلب ، مما يؤثر تأثيرا سيئا في الإنتاج ومن ثم في الناتج الإجمالي . بل إن الأثر الاجتماعي قد يكون أهم من الأثر الاقتصادي ، فمستويات المعيشة ستنخفض ، ومستويات الفقر ستزداد ، والتفاوت الطبقي أي التفاوت بين الأغنياء والفقراء سيزداد ، كما هو حاصل في المجتمعات الرأسمالية الغربية . أما الأثر السياسي فهو أهم تلك الآثار، فكما هو مشاهد في واقع البلدان النامية عند تنفيذ تلك السياسات، تظهر الاضطرابات الاجتماعية التي يعبر عنها أحيانا بالمظاهرات وأعمال العنف، التي ربما أسقطت حكومات أو أحرجتها ، وعدم الاستقرار السياسي ، ربما يكون من أكبر العوائق أمام التقدم الاقتصادي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في تلك البلدان ، وفي النهاية، ربما وجد البلد النامي ، أن تلك السياسات كانت في مصلحة غيره ، ولم تكن في مصلحته، وربما وجد نفسه قد رُبط بعجلة الاقتصاد الرأسمالي الغربي ربطا لا يستطيع الفكاك منه .
وأخيرا يلحظ على سياسات معالجة العجز في ميزان المدفوعات ما يلي :
1ـ أن تخفيض سعر صرف العملة المحلية ، فيه بعض الفوائد ، إلا أن نجاح هذه السياسة يعتمد على مرونة كل من الصادرات والواردات في البلدان النامية . والواقع أنها غير مرنة ؛ لأن أغلب صادرات الدول النامية صادرات زراعية أو مواد أولية وكلاهما قليل المرونة . كذلك فإن الواردات أغلبها سلع ضرورية وهي قليلة المرونة أيضا، ومن ثم فإن التخفيض لن يترتب عليه تخفيض الطلب على الواردات أو زيادة الطلب على الصادرات بالصورة المطلوبة. إضافة إلى أن نجاح تأثير تخفيض العملة في قطاع الصادرات والواردات يتطلب بقاء العوامل الأخر على ما هي عليه ، ومن ذلك عدم اتخاذ الدول الأخر إجراءات مماثلة ، وهو أمر لا يتحقق في الغالب .
2ـ مسألة تحرير الاستيراد من القيود مثل إلغاء القيود الكمية ، وتخفيض القيود الجمركية ، هذا سيؤدي إلى تشجيع التجارة الدولية ، إلا أنه سيكون لمصلحة الدول الكبرى ، كما أنه سيؤدي إلى زيادة العجز في ميزان المدفوعات ، وليس معالجته كما تقترح منظمات العولمة الاقتصادية . ذلك أن إزالة تلك الحواجز ، ستؤدي إلى اكتساح منتجات الدول المتقدمة لأسواق البلدان النامية ، أي زيادة الواردات إلى الدول النامية وانخفاض صادراتها ؛ نتيجة لزوال الحماية ؛ ولشدة المنافسة من البضائع والخدمات المستوردة . ومن المعلوم أن زيادة الواردات وانخفاض الصادرات سيؤدي إلى زيادة العجز في الميزان التجاري ومن ثم في ميزان المدفوعات وليس تخفيض ذلك العجز.
المصدر:
http://www.islamecon.com/publish/article_44.shtml