نموذج المصرف الإسلامي في فكر المؤسسين :
إذا قلنا إن من سبق ذكرهم هم زبدة الآباء المؤسسين، فإن استقراء فكرهم يكشف أن المصرف الإسلامي – تلك المؤسسة التي تنهض بوظيفة الوساطة المالية بدون الفائدة – يتصف في نظرهم بما يلي :
أولاً: إن أساس عمل المصرف الإسلامي في نظر المؤسسين هو الشركة والمضاربة، فهو يأخذ الأموال من الناس على أساس عقد القراض، ثم يقدمها إلى من يعمل فيها على أساس الاشتراك في الربح والخسارة بعقود المضاربة والمشاركة وغيرها، وهذا اتجاه أجمع عليه المؤسسون حتى أن منهم من قال: إن الحسابات الجارية تستحق جزءاً من الربح وعلى البنك أن يشارك بها مباشرة في المشاريع الصناعية والزراعية ( ).
ثانياً: ليست غاية المصرف الإسلامي عند المؤسسين استبدال الحلال بالحرام في معاملات البنوك فحسب، مع أن هذا مطلب أساس، وهدف محترم، ولا غبار عليه، ولكن المؤسسين تطلعوا إلى مصرف يُعنى بمقاصد الشريعة الإسلامية في المال، فيأخذ على عاتقه وظيفة إعمار الأرض، وتحقيق التوزيع الأمثل للثروة حتى لا تكون دولة بين الأغنياء، ويتبنى أغراضاً ذات طابع اجتماعي عام. ولذلك جاءت كتاباتهم تشير إلى محاربة الفقر من خلال عمل المصرف الإسلامي، وترسخ دور القراض والمشاركة في نشاط المصرف، ومالهما من أثر في تكافؤ الفرص، وإفساح المجال للنابهين من أبناء المسلمين للانخراط في الاستثمارات النافعة دون الحاجة إلى الرهون. لأن البنوك التي تعمل بالديون تشترط الرهن، والرهن لا يستطيعه إلا الأثرياء، ولذلك كانت الثروة دولة بين لأغنياء في ظل نظام القروض الربوية.
ثالثاً: من المحاذير التي نبه إليها الآباء المؤسسون تورط المصرف الإسلامي في المداينات، ولذلك حرصوا على إبعاد البنك الإسلامي عن تراكم الديون، ونبهوا إلى ضرورة ان تحد قدرته على توليد الائتمان لأنه يصبح عندئذٍ في نظرهم بنكاً للأغنياء، فالديون تحتاج إلى رهون، والرهون في أيدي الأغنياء، والديون إذا تراكمت سببت الدورات التجارية التي يذهب ضحيتها الفقراء، وقد استحضروا ما ورد في السنة من الاستعاذة من الدين، وما للدين من آثار سلبية على الفرد والمجتمع.
رابعاً: البنك الإسلامي عند المؤسسين ليس مؤسسة مالية غرضها الوساطة وتحقيق الربح، انه قاعدة لعمل عظيم، هو جزء من نظام مصرفي إسلامي، وهذا النظام متفرع عن حركة شاملة لإصلاح اجتماعي، واقتصادي، بدأ بالمعاملات المالية، ولكنه ينتهي إلى إعادة المجتمعات الإسلامية نظامها الإسلامي الذي اندثر بفعل المستعمر.
خامساً: للمصرف الإسلامي عند المؤسسين وظائف اجتماعية مستمدة من كونه جزءاً من نظام مجتمعي إسلامي، ولذلك نجدهم يذكرون أن على المصرف الإسلامي العناية بالزكاة، وان يكون جمعها وتوزيعها في مصارفها أحد اهتماماته وأحد وظائفه، وأن يكون لكل بنك صندوقاً للرعاية الاجتماعية، وان لا يقتصر عمله على المدن والحواضر بل يعنى بالمناطق الريفية وما إلى ذلك.
تلك هي الصورة التي انطبعت في أذهاب الكثير من أبناء الإسلام لاسيما أولئك الذين عاصروا ولادة المصرفية الإسلامية إنها الصورة الأكاديمية هي النظرية، فما هو التطبيق وكيف شكل الواقع المصرف الإسلامي اليوم.
المصرف الإسلامي اليوم :
إن نظرة فاحصة للواقع المعاصر للمصارف الإسلامية يكشف لنا أن مسار تطورها لم يكن مسار فكر المؤسسين ولم تسر على فكر أولئك العلماء. بل اختطت لنفسها مساراً واضح الاختلاف، وعندما نقول ذلك نحن لا نصف المصارف الإسلامية إلا كما نراها وكما هي لا كما يجب أن تكون أو كما نتمنى أن تكون. نحن نتحدث عن الواقع، ومن أهم صفات المصرف الإسلامي اليوم:
أولاً: المصرف الإسلامي اليوم مؤسسة مالية غرضها تحقيق الربح لحملة أسهمها، تكتسب وصف "الإسلامي" لأنها تقتصر في عملها على الحلال دون الحرام، وهي تستحق هذا الوصف بلا تردد. لكن لا يدخل ضمن تطلعاتها أن يكون لها دور شبيه بما تصوره الآباء المؤسسون مثل جمع الزكاة، أو إعمار الأرض، أو العمل على تحقيق التوزيع العادل للثروة، والدخل في المجتمع، فتلك جميعا تركت لسياسات الحكومات. واكتفى المصرف الإسلامي بالعمل على حصر نشاطه ضمن نطاق المباح كما تقرره هيئته الشرعية.
ثانياً: عمل المصرف الإسلامي اليوم يكاد يعتمد اعتماداً تاماً على المداينات، فهو يقدم التمويل بالمرابحة أو الاستصناع (أو التورق المصرفي) وكل ذلك تتولد عنه الديون في دفاتر البنك. وقليلاً ما نرى المضاربة أو المشاركة بل هي نادرة جداً. نعم لا تزال المضاربة الأساس الذي يعتمد عليه البنك الإسلامي في حسابات الاستثمار (مصادر الأموال للمصرف) لكن هذه المضاربة تفقد أثرها المتوقع على هيكل المصرف الإسلامي عندما نعرف أنها مضاربة يقابلها في جانب الخصوم ديون لا اشتراك في ربح ولا خسارة. فأصبحت مضاربة "شكلية" إذ لا تنتهي إلى توليد الأثر المميز على توزيع الدخل والثروة في المجتمع الذي طالما تحدث عنه المؤسسون في كتاباتهم، وحتى هذه المضاربة هي في سبيل الاختفاء لأن من المصارف الإسلامية اليوم من بدأ يتجه إلى جعل علاقته مع مصادر الأموال أيضاً معتمدة على المداينة (فيما يسمى التورق في جانب الخصوم) فزاد المصرف الإسلامي ابتعاداً عن الصورة التي رسمها المؤسسون.
ثالثا: إن تطور المصرفية الإسلامية يقوده المصرفيون وأرباب البنوك، ولم يعد كبير الصلة بالأكاديميين، والعلماء من ورثة فكر المؤسسين، نعم من المصرفيين البارعين ذوي الغيرة الإسلامية والحرص على رفع الربا عن النظام المصرفي، وهم من الحيوية وسرعة الإيقاع في عملهم بحيث لا يستطيعون انتظار الأكاديميين ليصلوا إلى نتيجة، فإذا قيل وماذا عن الهيئات الشرعية فالجواب إن دورها يكاد ينحصر في التأكيد على أن الابتكارات التي ينتجها المتخصصون في الهندسة المالية تتحقق فيها المتطلبات الشرعية التي تجعلها ضمن نطاق المباح.
يمكن أن نستنتج مما سبق أن المصرفية الإسلامية خلال نحو ثلاثة عقود سارت على مسارين متوازيين :
الأول هو مسار بناء قطاع مصرفي إسلامي وتأسيسه من الصفر والاعتماد في ذلك على فكر علماء مسلمون متخصصون، وهذا مسار البنوك الإسلامية التي عرفناها بالأمس ولا نزال نعرفها اليوم وإن كانت صفاتها اليوم تختلف عن زمن التأسيس. إنه المشروع الذي سعى إلى أن يؤسس لنظام مصرفي إسلامي تفرغ فيه الأفكار والطموحات التي طالما تكرر ذكرها في الخمسينيات والستينيات من القرن الميلادي في كافة بلاد المسلمين، هذا مسار نسميه المسار الأول.
ولكن هناك مسار آخر هو ما يمكن أن نسميه مسار أسلمة البنوك التقليدية القائمة. وهذا لم يقم على فكرة تأسيس قطاع مصرفي إسلامي جديد مستحدث، وإنما قام على تحويل القطاع المصرفي القائم من نطاق المحرمات وجره إلى نطاق الحلال. الفكرة الأساسية التي اعتمد عليها أصحاب هذا المسار هي ان البنوك القائمة في مجتمعات الإسلام بنوك تقليدية تعمل بالربا وان رفع بلوى الربا عن مجتمعات الإسلام لن يتحقق بتأسيس مصارف إسلامية جديدة بل بتحويل المصارف القائمة إلى مصارف إسلامية. وهذا له فلسفته وفكره وأدواته.
قد يبدو أن كلا المسارين جزء من مشروع واحد، والحق أنهما مشروعان مستقلان. والذي يسيطر على قطاع المصرفية الإسلامية اليوم هو المسار الثاني وليس المسار الأول. هذا المسار له سماته المميزة التي ولدت هذا الاختلاف عن المسار الأول. المؤسسون الذين تحدثنا عنهم إنما هم مؤسسون للمسار الأول، ولم يتطرق واحد منهم للمسار الثاني ولم ينظَّر له أو يقترح الضوابط والقواعد لعمله ونشاطه.
وسنحاول فيما يأتي بيان الفرق الأساس بين المسارين لنصل إلى القول أن غلبة المسار الثاني في الوقت الحاضر لا تعني موت المسار الأول وإنما سيلتقيان في نقطة واحدة في المستقبل.
تميز المسار الثاني بسمات لم تلق ما تستحق من عناية ودراسة من قبل الأكاديميين:
الأولى: إن القائمين على هذا المسار يمثلون تحالف مجموعة من المصرفيين الذين يغلب عليهم المهنية وهم عمليون (براغماتيون) يعرفون بالضبط ما يريدون قد حددوا هدفاً واضحاً اتجهت جهودهم للوصول إليه مع مجموعة من علماء الشريعة الذين انحصرت مهمتهم في التأكد من أن ما يجري ابتكاره من صيغ وأدوات يقع ضمن نطاق المباح والحلال. وأن مسار البنك يتجه إلى الهدف المقصود ليس للأكاديميين عظيم دور في هذا المسار بل هم بعيدون عنه، ولذلك يكاد يعدم التنظير ويغلب عليه "العملية".
الثانية: جوهر الفلسفة التي يقوم عليها هذا المسار هو التدرج. لقد تصور الآباء المؤسسون أن المصارف يمكن أن تتحول إلى نظام الإسلام بقرار سياسي، ولكن هذا في نظر أرباب المسار الثاني محض خيال لأن التدرج للتأكيد أن ما يترتب على أي عمل من آثار لا يغلب جوانبها السلبية على جوانبها الإيجابية. ولذلك فإن تحويل جزء من عمل البنك من نطاق الحرام إلى الحلال يعد انجازاً عظيماً في ميزان المسار الثاني حتى لو كان هذا الجزء صغيراً يسيراً لأن المهم هو الاستمرار في المسار حتى يصل إلى منتهاه في وقت يطول أو يقصر. ولا مكان في هذا المسار للمقولة التي يرددها البعض: إما مصارف خالصة أو لا مصارف. لأن ذلك ليس خياراً ممكناً فلا حاجة للتفكير فيه. والتدرج له عند أصحاب هذا المسار تبرير واضح هو أن الأعمال المصرفية هي من التعقيد ومن الخطورة على الاقتصاد الوطني بحيث إن أي تغيَّر مفاجئ لم يعد له الإعداد الكافي ولم تدرس آثاره على عمل المصرف وديناميكية القطاع المصرفي لا تكون في الغالب نتائجه محمودة.
الثالثة: غرض المسار الثاني هو تحويل عمل البنوك القائمة والتي تتوافر على القوة المالية والاستقرار تحويل عملها من نطاق الحرام إلى نطاق الحلال والمباح. ولم يعط القائمون على هذا المسار اعتباراً يستحق الذكر للصورة الكلية، تلك التي تأخذ باعتبارها الآثار القريبة والبعيدة والأهداف والأولويات الاجتماعية. وإنما اكتفوا بالصورة الجزئية أو باستخدام لغة الفقه عنوا بالحلال والحرام ولا أكثر من ذلك.
الرابعة: البنك بالنسبة لهذا المسار مشروع تجاري، وليس هذا مما يعاب على أهل هذا المسار ما دام ان استهداف الربح لا يكون على حساب الالتزام بالمباح والابتعاد عن المحرمات. لكن استهداف الربح ترتب عليه ان ضاق نطاق الخيارات المتاحة ولذلك فإن عملية التحول المذكورة يصعب ان تتوسع من مجرد السعي للحلال والحرام إلى النظر في المقاصد والأغراض البعيدة والمرامي الاجتماعية، فعلى سبيل المثال لا يخفى ما جاءت به الشريعة من النهي عن كثرة المداينات، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الدين. كما لا يخفى ما توصل إليه نظر الاقتصاديين فيما يتعلق بمخاطر الديون على الفرد وعلى المجتمع. ولكن المداينات وسيلة فعالة للمصارف وهي فن هم خبراء فيه كما أنه موافق للمعايير الدولية لعمل المصرف، وفوق ذلك كله هو ما اعتاد عليه الناس في عمل البنوك ولذلك اقتصر الاعتبار عند أهل هذا المسار على التأكيد من أن الديون تقع ضمن نطاق المباح ولكن كثيرها لا يضر في نظرهم.
الخامسة: ديدن أرباب المسار الثاني إيجاد البدائل، فهناك بديل عن القرض، وبديل عن بطاقة الأئتمان، وبديل عن كشف الحساب، وما إلى ذلك، لكل عمل يقوم به المصرف التقليدي بديل، ومرد ذلك أن إيجاد البديل الذي يقدم نفس النتائج الاقتصادية للمنتج التقليدي ويقع ضمن نطاق المباح حري بأن لا يحدث آثاراً يصعب توقعها على نشاط المصرف وربحيته وعلى استقرار القطاع المصرفي وانضباطه بقيود البنك المركزي وقوانين البنوك التي لم تعر المصرفية الإسلامية ما تستحق من عناية واهتمام بل جعلتها تتقيد بنفس القيود والضوابط التي ألزمت بها المصارف الأخرى.
إن المراقب عن كثب لمسار المصرفية الإسلامية، وبخاصة في هذا البلد المبارك لا يفوته أن يلحظ مؤشرات تدل على أن هذا المسار وقد حقق نجاحاً عظيماً ترتب عليه أن قارب عدد من البنوك على التحول الكامل إلى المصرفية الإسلامية. أقول هذا المسار بدأ يستشعر النقص، لذلك وجدنا أحد البنوك الذي أسس حديثاً يعلن في بيان، التزامه بالمصرفية الإسلامية وأنه لن يقتصر على جعل أعماله في نطاق المباح فقط بل سيعنى بمقاصد الشريعة في المال وبإعمار الأرض وبالمصالح الاجتماعية. وكذلك ما صرح به عدة مرات مسؤولون كبار في عدد من البنوك السعودية أنه حان الوقت لكي يعنى البنك بالأولويات الاجتماعية، وأعلنوا عن مشروعات متعددة تدخل ضمن هذا التعريف. وقد بدأت الهيئات الشرعية تعطي هذا الجانب إهتماماً متزايداً. كل هذا يدل على أن مساري التطور المشار إليها هما في سبيل الالتقاء بعد التوازي.
وبهذا نقول إن جهاد الآباء المؤسسين لم يذهب هباءاً منثورا وإنما سيؤتى أكله ولو بعد حين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.،،،
أ. د. محمد علي القري
جامعة الملك عبدالعزيز ـ جدة