ضرورة الاقتصاد الإسلامي في حياتنا العملية
الدكتور علاء الدين زعتري
إن الحديث في الاقتصاد الإسلامي يمثِّل جزءاً من مسيرة النهضة الإيمانية، والصحوة الفكرية، في سبيل خدمة الأمة الإسلامية في قوتها الاقتصادية، رداً على بعض أدعياء الثقافة ممن انبهر بالبهرجة المادية المزيفة، المنادين بأنَّ طريق التنمية الاقتصادية - ومثلها الاجتماعية والسياسية - لا بدَّ أنْ يمرّ عبر الأشكال والمؤسسات المستوحاة من الغرب، ودعواهم ليست أصيلة، بل هي ناتجة عن الترويض الذي مورس على المسلمين؛ ليتحركوا في دائرة الفكر الذي فرضه النفوذ التغريـبـي الخطير، فالغرب يطرح النظريات والفروض، والمسلمون -في إطار الأَسْر الفكري- يؤمنون بهذه النظريات على أنَّها حقائق ثابتة، ومن واجب العلماء العاملين والدعاة المخلصين والاقتصاديين الإسلاميين أن تتوحد جهودهم لبيان النظام الاقتصادي الإسلامي الذي هو محور أمل، وأداة فعل، له أهمية كبرى، وأثر بالغ في دفع عملية التنمية الشاملة إلى الأمام.
ومن المفيد الإشارة إلى أن من إعجاز الشريعة الإسلامية أنها لم تحصر النشاط الاقتصادي للبشر في نظرية محدودة، وإنما جاءت بنظام مرن يتفق وطبيعة النشاط الاقتصادي، فحياة الناس الاقتصادية من الأمور السريعة التغير فهي تتطور بصفة مستمرة بتغير المكان والزمان، ونلحظ أن الله U لم يُنْـزِل أحكاماً جزئية تفصيلية للنظام الاقتصادي الإسلامي، وإنما أنزل له مبادئ عامة من خلال النصوص الشرعية، ولكنها تمتاز بالمرونة والدقة، رحيبة الجوانب، راقية في أهدافها وغاياتها، لتتوافق مع أحوال الناس ومعاملاتهم ليكون المجال مفتوحاً لعملية التطور بشرط ألا ينقلب التطور إلى التدهور.
إنَّ المسلم المُعْتَزَّ بدينه، يعمل لدنياه وآخرته، فمفهوم العبادة لديه عمل نافع للدنيا، وعمل مرضي للآخرة، وإنَّ عمل الدنيا بعد بروز ظاهرة التخصص و تقسيم العمل، لا يكتمل في ظروف التقدم العلمي، والتبادل التجاري العالمي إلا بوجود مؤسسات قادرة على تلبية احتياجات المتعاملين داخلياً وخارجياً.
ومن واجب الفقيه - مع اختلاف الزمان - إعادة الربط بين المبادئ الشرعية (القرآن والسنة الصحيحة)، وبين الأعراف والمصالح والعادات والتقاليد الجديدة؛ ليضبط مسيرة المجتمع، هذا، وإن أحدث تطور للفقه الإسلامي هو الفقه الاقتصادي والمصرفي، حيث إن الفقه الإسلامي غني في أصالته، عميق في جذوره، شمولي في نظرته، مرن في تطبيقاته، ومن الواجب وضرورة الحكمة أنْ يتحرك الشعور الديني، ليدفع المختصين في الاقتصاد بالتعاون مع علماء الشريعة إلى إنشاء مؤسسات إسلامية تقوم على التقوى ومرضاة الله عزَّ وجلَّ، دستورها الشريعة، وعماد أمرها مصلحة الإنسان داخل المجتمع، بدل أنْ تكون تكراراً لآراء دخيلة متسللة من الآخرين، فالقواعد الكلية للتشريع الإسلامي والمقاصد الشرعية الإسلامية ينبوع عطاءٍ معين، يمكنه إرواء فكر الإنسان، وجعل حياته خصيبة،وهذا ما يبرر القاعدة الأصولية: [لا يُنْكَرُ تَغَيُّرُ الأحكامِ بتَغَيُّرِ الأزمان]، فالفقيه الحق، والعالم المنصف هو الذي يقرر المسائل المناسِبَة لوقته وزمانه، ويكتب الأبحاث بلسـان قومه، وبصيغة عصره، من خلال إيجاد نوع من التوفيق بين الأصول الشرعية، وما يجري في الواقع.
إن الاستثمار مطلبٌ اقتصاديٌ وشرعيٌ، وقد توسعت مجالات الاستثمار وأخذت أبعاداً عامة ومشتركة، إذ لم يعد كافياً -بوجه عام- أنْ يقوم الفرد باستثمار أمواله بنفسه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تنمية الأموال واسـتثمارها لا بد أن يمر عبر المعاملات المالية المؤسَّسة في كتاب الله U وسنة رسوله r، فلقد أَحَلَّ الله تبارك وتعالى البيع والتجارة، فقال: }وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ{ ([2])، وقال عزَّ وجلَّ:}يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا{([3])، وزيادة في حرص الإسلام على تنمية المال واستثماره، أباح للمسلمين البيع والشراء حتى في مواسم الحج –مواسم العبادة والطاعة-، قال الله تعالى: }لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ{([4])، قال العلماء: يعني في مواسم الحج([5])، ولقد شَرَعَ الإسلامُ للإنسان تنميةَ ماله؛ حفاظاً على هذا المال لمصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، ومن وسـائل حفظه: تنميته وتثميره في مجالات الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو الخدمات.
ومن الخدمات التي بدأت تظهر كجيل جديد من التطوير في الأعمال الاستثمارية المصرفية، والتنمية الاقتصادية فيها، لتتجاوز العمليات التقليدية، هي خدمة أمناء الاستثمار، وعليه فلا بد من وجود مؤسسات مالية؛ لتكون بيت خبرة اقتصادي، ومقر استشارات مالية واقتصادية للمسلين؛ بحيث تجمِّع الخبرات والكفاءات في مناحي الحياة، لتقدِّمها لِمَنْ يرغب بها؛ بمشورة صادقة، واستثمار ناجح موفَّق، استجابة للأركان التي وضعها الله عزَّ وجلَّ للإنسان ليكون من الفائزين الصالحين، يقول الله تعالى: }وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3){([6])، ومن التواصي بالحق: التشاور بين المسلمين، والنصح لبعضهم بالصدق، والأمانة فيما بينهم في كل مجالات الحياة، وبخاصة في الجوانب الاقتصادية.
إن هناك حاجة ماسة، وضرورة ملحّة للادخار المؤدِّي إلى استثمار: كي يشعر الفرد بالأمان في حياته الدنيا، وللعلم، فإنه لا توجد صيغ اسـتثمارية منصوص عليها – في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة - بل تعود في مجموعها إلى القواعد الكلية ومقاصد الشريعة الإجمالية؛ التي استنبطها العلماء العاملون والفقهاء المجتهدون من النصوص الشرعية الأصلية، وهي في الغالب ترجع إلى مصادر التشريع الفرعية، وعلى وجه الخصوص إلى مرجعي الاستحسان والعرف.