عملت الدول الرأسمالية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، وبالتحديد في أول يوليو سنة 1944م في مؤتمر" بريتون وودز " بولاية "نيوهامبشر" الأمريكية ، على إنشاء ثلاث منظمات اقتصادية : الأولى تهتم بالقضايا النقدية وهي صندوق النقد الدولي ، والثانية تهتم بالقضايا التنموية وهي البنك الدولي للتعمير والتنمية ، والثالثة تهتم بالقضايا التجارية لكنها لم تخرج إلى حيز الوجود إلا بعد زهاء خمسين عاما من ذلك التاريخ بمسمى منظمة التجارة العالمية .
وهذه المنظمات الثلاث اصطلح كثير من الكتاب على تسميتها بمنظمات أو مؤسسات العولمة الاقتصادية ؛ بدعوى أنها تخطط لهذه العولمة وتنفذها في الوقت نفسه بدعم من الدول الصناعية الغربية التي أنشأتها وسيطرت عليها ، تحقيقا لمصالح شركاتها وبخاصة الشركات متعددة الجنسية . فهي سلسلة مترابطة ، فالشركات تضغط على حكوماتها والحكومات تضغط على تلك المنظمات لكي تخطط وتنفذ مشروع العولمة، وتضع السياسات التي تحقق أهداف العولمة الاقتصادية الخفية .
ولا يتسع هذا المقام لذكر تفاصيل تلك المنظمات ، ولكنني سأذكر موازنة " مقارنة " موجزة بين الصندوق والبنك ، ثم موازنة بينهما وبين منظمة التجارة العالمية .
هناك أوجه اتفاق وأوجه افتراق بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتعمير والتنمية . وأهم أوجه الاتفاق هي كما يلي :
1ـ أن الصندوق والبنك يتفقان في أن المشكلة في الدول النامية هي تراكم أخطاء داخلية في تلك الدول ، أدت إلى تفاقم كل من العجز الداخلي والخارجي . ومن ثم فهما يستبعدان العوامل الخارجية تماما.
2ـ يعمل الصندوق مع البنك جنبا إلى جنب لتحقيق أهدافهما، حيث يعقدان اجتماعاتهما بصفة مشتركة في مكان وزمان واحد ، بل وصل التضامن بينهما أن البنك الدولي ، لا يقدم قروضا لدولة نامية ، حتى تحضر له خطابا من صندوق النقد الدولي ، يبين فيه أن تلك الدولة قد خضعت لسياسات الصندوق ، ونفذت كل ما فيها.
3ـ أن معظم الدول المؤسِّسة للصندوق والبنك ، هي الدول الغربية ، وعلى رأسها دول الحلفاء : الولايات المتحدة الأمريكية ، وبريطانيا ، وفرنسا ، التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية ، وقد استحوذت تلك الدول على نصيب الأسد في تمويل المؤسستين ، ومن ثم تمكنت من السيطرة عليهما ، وتوجيههما الوجهة التي توافق مصالحها ومبادئ النظام الرأسمالي الغربي ، الذي يراد له أن ينتشر في العالم ، مما يسهل للدول الغربية ، السيطرة والتحكم وبخاصة فيما يتعلق بالدول النامية .
فإذا نظرنا إلى حصص الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي ، التي عدة مرات كان آخرها التعديل الحادي عشر عام 1998م ، حيث وافق مجلس المحافظين على زيادة حصص الدول الأعضاء في الصندوق ليصل إجمالي الحصص إلى 212 مليار وحدة من حقوق السحب الخاصة ، نجد أن نسبة حصص خمس دول تمثل نحو 38% من مجموع حصص الدول الأعضاء البالغة 182 دولة ! وهذه الدول الخمس حسب تعديل عام 1998م هي كما يلي:
أ ـ الولايات المتحدة الأمريكية وتبلغ حصتها أكثر من سبعة وثلاثين مليار وحدة حقوق سحب خاصة بنسبة 5 ,17% .
ب ـ ألمانيا واليابان وتبلغ حصة كل منهما أكثر من ثلاثة عشر مليار وحدة حقوق سحب خاصة ، بنسبة 6% لكل منهما .
ج ـ المملكة المتحدة وفرنسا وتبلغ حصة كل منهما أكثر من عشرة مليارات وحدة حقوق سحب خاصة ، بنسبة 4 % لكل منهما .
إن هذا التوزيع للحصص ، يفسر سبب هيمنة الدول الصناعية الغربية على سياسات الصندوق ، بل ويفسر التزام الصندوق بالفكر الاقتصادي الرأسمالي ، وحرصه الشديد على تنفيذ ذلك الفكر في الدول النامية ، دون النظر إلى خصوصياتها وأوضاعها الدينية والاجتماعية ، تحقيقا لأهداف العولمة الاقتصادية المتمثلة في جعل العالم كله يسير وفقا للنموذج الرأسمالي الغربي ويرتبط به ارتباطا عضويا .
4ـ يرتبط نظام التصويت في الصندوق والبنك ارتباطا كبيرا بحصة البلد العضو وهو ما يسمى بنظام التصويت المُرجِح ، بمعنى أن اتخاذ القرار يتناسب مع مقدار الحصة. فقد جاء في اتفاقية الصندوق والبنك أن لكل عضو مئتين وخمسين صوتا يضاف إليها صوت واحد عن كل مئة ألف وحدة حقوق سحب خاصة من حصته. مثلا :
حسب الاتفاقية تتخذ قرارات الصندوق بأكثرية الأصوات المدلى بها. إلا أن نظام التصويت المُرجِح يقلل من إمكانية صدور القرارات بالأغلبية . فالقرارات ذات الأهمية في تحديد سياسات الصندوق حدد لها نسبة عالية هي 85% من مجموع الأصوات . وهذا بطبيعة الحال، جعل باستطاعة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الكبرى استعمال حق الاعتراض (الفيتو) على قرارات الصندوق، ولا شك أن هذا ينعكس أثره في نشاط الصندوق ، وتبقى السياسة المالية له محكومة برغبة الدول ذات الأصوات الكثيرة ، حيث تتعطل القرارات باعتراض دولة واحدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية ، أو بعدد قليل من الدول الكبيرة ، وهكذا تزول مزايا مبدأ الأغلبية، وكأن العمل يتم على أساس مبدأ الإجماع أو قريب منه.
وتوضيح ذلك ، أن الولايات المتحدة الأمريكية لو اعترضت على قرار معين ، فإنها ستقتطع نسبة 17,5 % من إجمالي نسبة التصويت ، فلا يبقى إلا 82,5 % ، مما يعني أن القرار لا يمكن أن يحصل على النسبة المطلوبة وهي 85% حتى ولو وافقت عليه بقية الدول الأعضاء