10. شيخ الإسلام ابن تيمية:
هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبى القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية الحرانى ثم الدمشقي الإمام الفقيه المجتهد الحافظ المفسر الزاهد أبو العباس تقي الدين شيخ الإسلام وعلم الأعلام
ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران قدم به والده وبإخوته إلى دمشق عند استيلاء التتر على البلاد
وسمع من ابن عبد الدائم وابن أبى اليسر والمجد بن عساكر والقاسم الإربلى والشيخ شمس الدين بن أبى عمر وخلق كثير سمع المسند مرات والكتب الستة ومعجم الطبرانى وما لا يحصى وكتب بخطه جملة من الأجزاء وأقبل على العلوم في صغره
وأخذ الفقه والأصول عن والده وعن الشيخ شمس الدين بن أبى عمر والشيخ زين الدين ابن المنجى وبرع في ذلك وناظر وقرأ العربية على ابن عبد القوى ثم أخذ كتاب سيبويه فتأمله وفهمه وأقبل على تفسير القرآن العظيم فبرز فيه وأحكم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة وغير ذلك من العلوم ونظر في علم الكلام والفلسفة وبرز في ذلك على أهله ورد على رؤسائهم وأكابرهم.
وتأهل للفتوى والتدريس وله دون العشرين سنة وأمده الله تعالى بكثرة الكتب وسرعة الحفظ وقوة الإدراك والفهم وكان بطيء النسيان حتى ذكر جماعة أنه لم يكن يحفظ شيئا فينساه وتوفي والده الشيخ شهاب الدين وكان عمره إذ ذاك إحدى وعشرين سنة فقام بوظائفه ودرس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين وحضر عنده قاضى القضاة شهاب الدين بن المزكى والشيخ شهاب الدين الفزارى والشيخ شهاب الدين ابن المرحل والشيخ زين الدين ابن المنجى وذكر درسا عظيما في البسملة وعظمه الجماعة الحاضرون فأثنوا عليه ثناء كثيرا قال الذهبي وكان الشيخ تاج الدين الفزارى يبالغ في تعظيمه بحيث أنه علق بخطه درسه بالسكرية ثم جلس مكان والده بالجامع يفسر القرآن الكريم وشرع من أوله وكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر وبقى يفسر في سورة نوح عدة سنين وفي وقت ذكر يوم جمعة شيئا من الصفات فقام بعض المخالفين وسعوا في منعه فلم يمكنهم ذلك وقال قاضى القضاة شهاب الدين الخويى: أنا على اعتقاد الشيخ تقي الدين، فعوتب في ذلك فقال: لأن ذهنه صحيح ومواده كثيرة فهو لا يقول إلا الصحيح
وكان أعجوبة زمانه في الحفظ وقد حكى أن بعض مشايخ حلب قدم دمشق لينظر إلى حفظ الشيخ فسأل عنه فقيل الآن يحضر فلما حضر ذكر له أحاديث فحفظها من ساعته ثم أملى عليه عدة أسانيد انتخبها ثم قال اقرأ هذا فنظر فيه كما فعل أول مرة فقام الشيخ الحلبي وهو يقول إن عاش هذا الفتى ليكونن له شأن عظيم فإن هذا لم ير مثله وقال الشيخ شرف الدين أنا أرجو بركته ودعاه وهو صاحبي وأخي ذكر ذلك البرزالى في تاريخه.
ثم شرع في الجمع والتصنيف من العشرين ولم يزل في علو وازدياد في العلم والقدر إلى آخر عمره قال الحافظ المزى ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه وذكره الذهبي في معجم شيوخه ووصفه بأنه شيخ الإسلام وفريد عصره علما ومعرفة وشجاعة وذكاء ونصحا للأمة أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر إلى غير ذلك من الصفات الحميدة والأخلاق المرضية وقال الشيخ كمال الدين ابن الزملكانى كان ابن تيمية إذا سئل عن فن من العلم ظن الرآئى والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم أن أحدا لا يعرفه مثله
وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذاهبهم أشياء ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها قال الشيخ زين الدين ابن رجب وقد عرض عليه قضاء الحنابلة قبل التسعين ومشيخة الشيوخ فلم يقبل شيئا من ذلك
وقد كتب ابن الزملكانى بخطه على كتاب إبطال الحيل ترجمة الكتاب واسم الشيخ وترجم له ترجمة عظيمة وأثنى عليه شيئا كثيرا وكتب تحته بخطه ماذا يقول الواصفون له وصفاته جلت عن الحصر هو حجة لله قاهرة هو بيننا أعجوبة الدهر هو آية للخلق ظاهرة أنوارها أربت على الفجر، وحكى الذهبي عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العبد أنه قال له عند اجتماعه به وسماعه لكلامه ما كنت أظن أن الله تعالى بقى يخلق مثلك، وقد كتب العلامة قاضى القضاة تقي الدين السبكى إلى الحافظ الذهبي في أمر الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق أن قدره وزخارة بحره وتوسعته في العلوم الشرعية والعقلية وفرط ذكائه واجتهاده بلغ من ذلك كل المبلغ الذي يتجاوزه الوصف والمملوك يقول ذلك دائما وقدره في نفسى أكثر من ذلك وأجل مع ما جمعه الله تعالى من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه وجريه على سنن السلف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفي وغرابة مثله في هذا الزمان بل في أزمان وللشيخ أثير الدين أبى حيان الأندلسى النحوى لما دخل الشيخ إلى مصر واجتمع به قال أبياتا لم يقل خيرا منها ولا أفحل:
لما رأينا تقى الدين لاح لنا *** داع إلى الله فرد ماله وزر
على محياه من سيما الأولى صحبوا*** خير البرية نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حبرا***بحر تقاذف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا***مقام سيد تيم إذ عصت مضر
فأظهر الحق إذا آثاره درست***وأخمد الشرك إذ طارت له شرر
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ***هذا الإمام الذي قد كان ينتظر