.
الفرع الرابع : الحرية الاقتصادية في روسيا
كانت روسيا قبل الانقلاب الشيوعي دولة تنتشر فيها الإقطاعية ، ولم تكن الحرية معروفة فيها بمفهومها الحديث، شأنها شأن كثير من بلاد الغرب غير الصناعية، غير أن المذهب الشيوعي عندما تمكن منها قضى على كل معنى للحرية ، ولم يعد لهذه الكلمة من أثر سوى في التضليل الذي تنشره أبواقها في غير بلادها.
وفي الواقع أن نظام السخرة في المجتمعات الشيوعية هو النتيجة المنطقية لاحتكار سائر الممتلكات ، وبالتالي وضع اليد على منابع الثروات القومية ، بحيث لم يعد العامل مضطرًا لبيع عمله فحسب ، وإنما هو مجبر على بيعه بظروف خارجة عن إرادته . لأنه أعجز من أن يرى من يستخدمه بشروط أفضل . فالدولة هي المستخدم الوحيد، وما على العامل (الآلة أو البرغي) إلا الرضوخ بل الانسلاك في هيكل تلك المكنة العملاقة(7).
ويمكن القول بأن أشد ضروب الرداءة والإيذاء التي مارستها الرأسمالية في مطلع عهدها، هي دون وطأة الطبقة الجديدة على كاهل العامل. وكل مافي الأمر من وجهة نظر العامل أنه استبدل مستخدمًا فردًا بمستخدم جماعي . وكان في ظل المستخدم الأول له حرية التعبير عن استيائه – إن استاء – وحُرم هذا الحق في ظل مستخدمه الجديد.
فالإنسان في النظام الشيوعي عنصر إنتاج لاغير.
فاذا كان العامل من الناحية الفنية ، هو حر في النظام الشيوعي ؛ لكن استخدامه لحريته تلك أبعدٍ مايكون عن الواقع. وكيف يمكن للعامل أن يكون حرًا في مجتمع كل خيراته المادية من سلع وبضائع في قبضة واحدة بعينها ؟ مما تصبح معه القوى العمالية ذاتها بشكل مباشر أو غير مباشر سلعة في يد تلك الطائفة . وسعيد ذلك العامل الذي يفيد بشيء جزئي من ثمرات عمله .
وعلى الصعيد النظري المحض ، فإن مجموعة القوىالعاملة برّمتها هي أحد عوامل الإنتاج الاجتماعي؛ لكن الطبقة الحاكمة الجديدة باستخدامها المطلق للثروة القومية وعناصر الإنتاج فيها ، تطبق هذه القاعدة بالذات على الكائن البشري العامل باعتباره عنصرًا من عناصر الإنتاج لاغير. تجاوزة بذلك أي عامل من الإنسانية .
والمالك في النظام الشيوعي ليس فردًا بعينه، ليرفع العمال عقيرتهم بالاحتجاج ضده وإنما هو الجهاز العام للحكم ، الذي هيهات أن تميز هويته ، وفضلاً عن كل ذلك فإن هذا المالك جامع بقبضته الفولاذية سائر منابع الثروة ، وهيهات رفع الصوت بالاحتجاج ضده، لأن البوليس السرّي يرصد حركات وسكنات المواطنين فردًا فردًا .
فالاستئثار بالحكم والتمتع بالامتيازات المادية من قبل فئة محدودة مهيمنة على المجالات الاقتصادية والسياسية، ويدعمها بذلك نهجها في ميدان التخطيط الموجه ، الرامي إلى توطيد مركزها ودعم امتيازاتها الخاصة وزيادة حجم مصالحها الفردية، ليس في نطاق دولها فحسب، وإنما في سعيها للسيطرة على اقتصاديات العالم وإخضاعه لنفوذها كذلك.
إن هذه العوامل جميعها تعمل على تأخير رفع مستوى الحياة للفرد، وضرب الاتجاه الهادف الى تطوير الأوضاع الاقتصادية في الداخل بصورة منسجمة متكاملة .
أما فيما يختص بموضوع فقدان الحرية وانعدامها في الأنظمة الشيوعية، فإنه يظل العامل الأكبر في تخلف كثير من جوانب الاقتصاد السوفييتي، وانعكاسه على المستوى الاجتماعي.
وبذلك نجد أن قضية الحرية في ظل الانظمة الشيوعية، تتقدم لتأخذ دورها كمشكلة اقتصادية أولى ، تنعكس على التطور الاجتماعي والاقتصادي بأسره(
.
هذا وإن القادة الشيوعيين لهم مطلق الصلاحية في التصرف بكامل مرافق الدولة مثلما يديرون جميع قطاعات الاقتصاد، وبشكل يغاير تعاليمهم نفسها ويعارضه ، وذلك لأنهم يتصرفون حسب أهوائهم الفردية ومصالحهم الشخصية، وما يتفق مع وجهات نظرهم الخاصة، على الرغم من أن الميدان الاقتصادي يتميز عن كافة ميادين الأمة الاخرى بطبيعته التي لاتقبل أي استبداد فوقي أو تصرف شخصي بعيد عن الدراسة والموضوعية(9).
* * *
الهوامش :
(1) من كتاب (اقتصادنا) للاستاذ محمد باقر الصدر ص 260.
(2) سورة النساء الآية: 59.
(3) المرجع السابق ص 263.
(4) من كتاب (علم الاقتصاد الحديث) لمؤلفيه: آرثر ادوارد بيرنز والفرد نيل و. د. واطسوان ترجمة برهان الدجاني وعصام عاشور.
(5) المرجع السابق بشيء من التصرف ص 61/62.
(6) المرجع السابق ص 65/67.
(7) من كتاب (الطبقة الجديدة) لمؤلفه ميلوفان ديجلاس ص 145 نشر دارالكتاب العربي بيروت ص 145 وما بعدها.
(
المرجع السابق ص 160.
(9) المرجع ذاته ص 162.
http://www.darululoom-deoband.com/arabic/magazine/1173849054/fix4sub1file.htm