د. علي بن سعيد الغامدي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،، أما بعد:
فقد عمت البلوى بكثير من المعاملات المالية المعاصرة، وأصبح تحصيل المال بأيسر الأسباب وأسرعها مطلب الكسول والعامل، النبيه والخامل، وفي العقدين الأخيرين كثرت مسائل البيوع والمعاملات المالية المختلفة، وتداخلت أعيان تلك المسائل، واشتبه الحلال بالحرام، فلا تدرك أحكام تلك المسائل إلا بالتنقيب والبحث؛ حتى يحرر الفاصل بين الحلال والحرام، ومن تلك المعاملات: المشاركة في شركات الأسهم، فلا بد من البحث والنظر الدقيق في نظام هذه الشركات، وكيفية معاملتها مع المشتركين، ومن ثم إصدار الحكم الشرعي إزاء هذا النوع من المعاملات الذي طم وعم في عصرنا الحاضر، وانخدع به كثير من الناس؛ ظانين حلَّه وإباحته، غير مطلعين على أقوال أهل العلم في هذا النوع من المعاملات.
وهذا بيان يعبر عن رأيي الشخصي إزاء هذه القضية، مع احترامي لآراء طلبة العلم المجتهدين في هذا الباب، والخلاف لا يفسد للود قضية.
وقد جعلته مقسماً إلى فقرات، وهي:
1) نشأة شركات الأسهم.
2) نظام شركات الأسهم المعمول به اليوم.
3) موقف العلماء من نظام شركات الأسهم الوضعي.
4) الأسباب الحاملة على الاشتراك في شركات الأسهم.
5) مخالفة نظام شركات الأسهم للتشريع الإسلامي في الشركات.
6) مفاسد مترتبة على المساهمة في شركات الأسهم.
7) البدائل الشرعية العملية للمساهمة القائمة على غير الشريعة الإسلامية.
أولاً: نشأة شركات الأسهم
إن نشأة شركات الأسهم في دول العالم الثالث تابع لنشأتها في دول الغرب؛ حيث إن القانون الذي يحكم تلك الشركات هو المطبق الآن في العالم الإسلامي وغيره.
وقد نشأت الشركات في الغرب على أساس استعماري، وأول ما يذكر في تاريخها (شركة المغامرين المكتشفين الإنجليز)، ثم ظهرت بعد ذلك (شركة الهند الشرقية)، وهي شركة بريطانية احتكرت تجارة الهند. وكذلك (شركة الهند الشرقية)، وهي شركة هولندية احتكرت التجارة في جزر الهند الشرقية (إندونيسيا وما جاورها).
ثم ظهرت الشركات التي نشأت في مصر من أجل الاستيلاء على خيراتها، وخاصة تجارة القطن، وقد طبق على تلك الشركات القانون الفرنسي. ثم تبعتها -أي: مصر- جميع الدول التي تحتاج إلى الخبرة المصرية باعتبارها بوابة العالم العربي والإسلامي.
وقد اشتهر من القانونيين في ذلك الحين السنهوري، فهو كما يقال: (أبو القانون) وقد ألف موسوعة ضخمة في القانون، وكل ذلك مبني على قانون نابليون؛ أول قانون في العالم ينشأ ويأخذ صبغة النظام.
ثم نشأت شركات الرقيق في أفريقيا التي كانت تبيع الرقيق السود لأمريكا وغيرها، وقد ساد عند الناس -من جراء ذلك- أن كل أسود يعتبر رقيقاً ولو كان أصله حراً.
ثم نشأت شركات البترول، والتي سيطرت على بترول العالم الإسلامي، وتحكمت في إخراجه وتوزيعه وتسويقه بنسب محدودة مع الحكومات.
ومماسبق يتبين أن الشركات المساهمة ارتبطت في نشأتها تاريخياً بالاستعمار والاحتكار، وما يعرف بالمذهب الرأسمالي، والذي انبثق من فلسفة نفعية وهي ما يسمى: بالبرجماتية، وهو مذهب لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، وهدفه الوصول إلى أكبر قدر ممكن من المال بأقل كلفة.
ولِما كان لهذه الشركات من الآثار السلبية والضغوط ظهر ما يعرف بنظام الاشتراك، وظهر ما يعرف باسم: المؤسسات العامة التي تدرأ عن الدول الغربية خطر الثورات والاضطرابات العمّالية، وتقبل مساهمات العمال في تلك الشركات، ولتظهر الدولة بمظهر العدالة الاجتماعية؛ لتبقى المحافظة على النظام الرأسمالي النفعي ولو لبس ثوباً آخر.
نشأ مع هذه الشركات نظامان خادعان:
1- الانتخابات.
2- مجلس الإدارة.
وهما أكذوبتان لا يعرفهما أكثر الناس؛ فإن الانتخابات التي تجري في هذه الشركات تنبني على الديمقراطية التي يحكم فيها الشركاء أنفسهم بأنفسهم، والذي يحكمهم في الحقيقة هم فئة متسلطة معينة مجهزة من وراء الكواليس، لا يعرفها إلا من يدبّر الأمر.
وكذلك أكذوبة مجلس الإدارة في الشركة المساهمة أو في المؤسسات العامة، فهو الآمر الناهي المتصرف بما يشاء كيف شاء، والمساهم فيها لا يعلم شيئاً مما ما يدور في تلك الإدارات أبداً.
ثانياً: نظام شركات الأسهم المعمول به اليوم
عند وضع النظام المعمول به في شركات الأسهم أُلغي الفصل الخاص بالشركات من نظام المحكمة التجارية، وأُحل محلّه النظام المعمول به حالياً، وهو مأخوذ من القانون المدني المصري، وقد جاء في مقدمته: "بالرغم من أن الشركات التي أسست في تلك الفترة القصيرة قد شملت في أعرافها كافة أوجه النشاط المالي والتجاري والصناعي، وبلغت رءوس الأموال المملوكة لها عدة مئات من الملايين، وزاد إقبال الدوائر الحكومية والأفراد على التعامل معها- فإن نصوص الأنظمة التي تحكمها لا تزيد حتى الآن على بضع مواد وردت في نظام المحكمة التجارية لم تكن كافية لمواجهة كافة المسائل المتعلقة بالشركات عند إنشائها؛ إما خلال مزاولة نشاطها، وإما عند انقضائها وتصفيتها.
وإزاء هذا القصور لجأ الأفراد في تأسيس شركاتهم ومعالجة أمورها إلى اقتباس القواعد المعمول بها في الدول الأخرى، فاختلفت السبل، واختلطت الأمور في كثير من الأحوال اختلاطاً عززت مهمة الوزارة في مراقبتها والإشراف عليها، من هنا بدت الحاجة ملحة إلى وضع نظام شامل للشركات ينص على الأحكام الواجبة الاتباع في تأسيسها ومزاولتها نشاطها..."اهـ.
إذاً: فالمشكلة الشاخصة عند المقننين هي أنهم لم يجدوا عندنا تشريعاً يضبط الشركات -مع تشعبها وكثرتها- إلا بضع مواد في نظام المحكمة التجارية، الذي كان في أصله امتداداً للقانون العثماني المستمد من فرنسا.
والخلاصة التي نريد الوصول إليها: أن نظام الشركات القائم الآن هو نظام قانوني مستمد من القانون المدني المصري المستمد من القانون الفرنسي.
ثالثاً: موقف العلماء من نظام شركات الأسهم الوضعي
والسؤال الذي يطرح نفسه عند وضع هذا النظام: أين الشريعة الإسلامية؟! أين الفقه الإسلامي؟! أين علماء الشريعة وفقهاؤها وهم متوافرون وعلى رأسهم فضيلة العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية آنذاك؟!
وإذ قد ثبت أن في الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي ما يكفي لوضع نظام متكامل للشركات، فتُرك واستمد نظام الشركات من القانون المدني المصري المستمد من القانون الفرنسي؛ فكيف يجوز الدخول في أسهم الشركات بأي وجه من الوجوه؟!
وكان قد عرض هذا النظام على سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله عند صدوره عام (1369هـ) للمرة الثانية، وبعد دراسته قال رحمه الله: "وبعد دراسة النظام وجدناه نظاماً وضعياً قانونياً لا شرعياً؛ فتحققنا بذلك أنه حيث كانت تلك الغرفة هي المرجع عند النزاع فإنه سيكون فيها محكمة، وسيكون الحكام فيها غير شرعيين؛ بل نظامييين قانونيين، ولا ريب أن هذه مصادمة لما بعث به الله نبيه صلى الله عليه وسلم من الشرع، الذي هو وحده المتعين للحكم به بين الناس، والمستضاء منه عقائدهم وعباداتهم، ومعرفة حلالهم وحرامهم، وفصل النزاع عندما يحصل التنازع، واعتبار شيء من القوانين بالحكم بها ولو في أقل القليل لا شك أنه عدم رضاً بحكم الله ورسوله، ونسبة حكم الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم - إلى النقص وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلى أربابها".
بل مما ورد في كلامه رحمه الله: كفر من اعتقد في تلك الأنظمة والقوانين كفاية وغنية عن حكم الله ورسوله، قال رحمه الله: "واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملة".
وقال رحمه الله: "والأمر كبير مهم، وليس من الأمور الاجتهادية، وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، وقد قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) [النساء:59].
وقال تعالى: ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)) [النساء:65]".
والخلاصة: أن أصل النظام واستمداده، ثم واضعه، وجهة التحاكم فيه؛ كلها مرجعها ومآلها إلى غير شرع الله، وهذا في الجملة.
وحتى تصح المشاركة والمساهمة في الشركات القائمة؛ لابد من إصلاح وضعها، واستمداد نظامها من الشريعة الإسلامية وفق الضوابط الشرعية، وحسبما نص عليه أهل العلم، وقد أبلى علماؤنا وفقهاؤنا في كتاب الشركات بلاءً حسناً، حتى إن الموفق ابن قدامة رحمه الله كتب فيه أكثر من ثمانين صفحة (1).