نتائج الهندسة المالية ترتبط بتفهم المصارف الإسلامية الإبداع والبحث والتطوير
الكاتب:عثمان ظهير
أكد باحث متخصص في المصرفية الإسلامية أن مقدرة المصارف الإسلامية على تحقيق الاستفادة من "الهندسة المالية" في مجال أعمالها يرتبط بالبيئة التي تعمل فيها هذه المصارف ومدى اهتمامها بالإبداع والبحث والتطوير لأعمالها.
وقال لـ"الاقتصادية" الخبير والباحث الأردني ناصر الزيادات إن "هناك خلطا كبيرا بين مصطلحي الهندسة المالية والمشتقات المالية، حيث إن المصارف الإسلامية جديدة نوعا ما فإن استخدام الهندسة المالية سيجعلها أكثر جذبا وتنافسية من نظيرتها التقليدية".
بداية يقول ناصر الزيادات إن هناك سوء فهم لدى كثير من الناس حول مفهوم الهندسة المالية، وعلني أضرب مثلاً حدث مع أحد الأشخاص - يحمل شهادة الماجستير في التمويل - الذي ذهب لمقابلة في إحدى الجامعات الخاصة فسألوه عن التخصصات التي لديه القدرة على تدريسها. فأجاب متفاخراً أنه يستطيع تدريس مادة "الهندسة المالية"، لكنه فوجئ بالطرف الآخر يقول له: "لا أريدك أن تحاضر في كلية الهندسة، (خليك) في كلية إدارة الأعمال أحسن"!!!. وليس الأمر بأحسن حالا لدى بعض الممارسين للتمويل والمصرفية في جميع أرجاء العالم. ففي كثير من الأحيان يتم ربط مفهوم الهندسة المالية خطأً بالمشتقات المالية Financial Derivatives التي يتم تداولها في الأسواق الآجلة، حيث تستخدم تلك الأدوات على الأغلب للتحوط ضد المخاطر المحتملة. أما الراسخون في العلم المالي فيرون أن الهندسة المالية ترتبط ارتباطاً مباشراً بعمليات الإبداع والتطوير للمنتجات والأدوات والخدمات المالية التي من شأنها تحقيق أعلى مقدار من العوائد عند مقدار معين من المخاطر.
أهميتها للمصارف عموما
لا شك أن الحاجة ماسة للإبداع والتطوير في البنوك على اختلاف أنواعها لأن ذلك من عوامل الديمومة والبقاء في أسواق مفتوحة وحرة تشهد تنافساً حاداً بين البنوك والمؤسسات المالية المحلية وبين تلك المؤسسات ونظيراتها الدولية التي تعمل معها في البلد أو المنطقة نفسهما.
لكن فيما يخص المؤسسات المالية الإسلامية فالحاجة ملحة للتطوير والإبداع والهندسة ولكل ما يندرج تحت تلك المترادفات ليس على المستوى المؤسسي وحسب، بل على مستوى الصناعة. فالصناعة المالية الإسلامية كونها صناعة ناشئة بالمقارنة بنظيرتها التقليدية تعد في أمس الحاجة إلى عمليات التطوير والابتكار لمنتجات مالية إسلامية أصيلة تحافظ على هوية الصناعة وتقيها شرور التقليد حتى وإن كان في إطار شرعي. وهذا كله في المحصلة سيسهم في تحقيق نمو مستدام للصناعة ككل وينعكس حتماً على استدامة المؤسسات المالية الإسلامية.
إيجاد البدائل للمنتجات التقليدية
الهندسة المالية هي وسيلة للإبداع والتطوير وإيجاد المنتجات الإسلامية البديلة للمنتجات التقليدية.. لكن الأهم من السؤال عند قدرة الهندسة المالية على إيجاد المنتجات البديلة للمنتجات المالية التقليدية هو السؤال عن البيئة التي تحفز الإبداع وتسهله، والأشخاص المبدعين وسماتهم والاهتمام بهم، وثقافة المؤسسات المالية الإسلامية وتفهمها للإبداع، ومدى اهتمامها بعمليات البحوث والتطوير، ومدى إلمام المبدعين المختصين بالمفاهيم الشرعية التي من شأنها تعزيز الإبداع الأصيل.. وغيرها. إنها بيئة متكاملة يجب النظر إليها من خلال كل مكوناتها دون إغفال أهمية أي منها. ويكفي هنا أن نشير إلى أنه بعد الاطلاع على التقارير السنوية لأكبر 12 مؤسسة مالية إسلامية في منطقة الخليج العربي لم يتم العثور لا من قريب ولا من بعيد على أي إشارة تفيد أن هناك مخصصات تنفقها تلك المؤسسات على البحوث والتطوير، في الوقت الذي أنفقت فيه تسعة بنوك أوروبية ما يربو على مليار دولار على عمليات البحوث والتطوير.
أثر غيابها عن البنوك
التقليد هو البديل الوحيد للإبداع. ومع وجود التقليد تذوب الهوية وتنصهر في هويات أخرى. فهل نقبل أن تذوب هويتنا في هوية أخرى؟ ولكن في المقابل يجب عدم تحميل المؤسسات المالية الإسلامية ما لا تحتمل.. فهي تعمل وفقاً للشريعة ولكن ضمن نظم اقتصادية تقليدية وهو أمر يفرض عدداً من التحديات أمام استخدام بعض المنتجات المالية الإسلامية الأصيلة، ويجبر تلك المؤسسات على استخدام بعض المنتجات التقليدية بعد تأطيرها بإطار شرعي. كما أن مؤسسات البنية التحتية التي من المفترض فيها أن تتحمل جزءا من أعباء البحوث والتطوير لم تقم بواجبها حتى الآن على أتم وجه.
مفهوم الصناعة المالية
من جهته يقول الدكتور سامي السويلم المتخصص المالي إن "الهندسة المالية Financial Engineering، مفهوم قديم قدم التعاملات المالية، لكنه قد يبدو حديثاً نسبياً من حيث المصطلح والتخصص" وتعرف "الهندسة المالية" بحسب بعض المختصين بأنها: "التصميم، والتطوير، والتنفيذ، لأدوات وآليات مالية مبتكرة، والصياغة لحلول إبداعية لمشكلات التمويل".
ويشير السويلم إلى أنه وفقا للتعريف فإن "الهندسة المالية تتضمن ثلاثة أنواع من الأنشطة:
1- ابتكار أدوات مالية جديدة، مثل بطاقات الائتمان.
2- ابتكار آليات تمويلية جديدة من شأنها تخفيض التكاليف إجرائية لأعمال قائمة، مثل التبادل من خلال الشبكة العالمية.
3- ابتكار حلول جديدة للإدارة التمويلية، مثل إدارة السيولة أو الديون، أو إعداد صيغ تمويلية لمشاريع معينة تلائم الظروف المحيطة بالمشروع".
ويضيف أن "الابتكار المقصود ليس مجرد الاختلاف عن السائد، بل لا بد أن يكون هذا الاختلاف مميزاً إلى درجة تحقيقه مستوى أفضل من الكفاءة والمثالية. ولذا لا بد أن تكون الأداة أو الآلية التمويلية المبتكرة تحقق ما لا تستطيع الأدوات والآليات السائدة تحقيقه.
وعليه فيمكن إجمال مفهوم الصناعة المالية في أنها ابتكار لحلول مالية. فهي ترتكز على عنصر الابتكار والتجديد، كما أنها تقدم حلولاً، فهي بذلك تلبي حاجات قائمة أو تستغل فرصاً أو موارد معطلة. وكونها مالية يحدد مجال الابتكار في الأنشطة الاقتصادية، سواء في التبادل أو التمويل".
أسس الهندسة المالية في الإسلام
وعن استخدام الهندسة المالية في ظل الشريعة الإسلامية يقول إنه "بشيء من التتبع يتبين أن الشريعة الإسلامية تضمنت الأسس الضرورية لقيام الهندسة المالية. فهي قد شجعت على الابتكار وحثت عليه، وبينت الأسس التي يمكن من خلالها توجيه وترشيد عملية الابتكار المالي بما يحقق المصالح المرجوة".
"من سن في الإسلام سن حسنة"
ويستدل السويلم بما صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً".
ويقول إن "هذا الحديث الشريف يمثل الأساس الأول في الحث على الإبداع والابتكار الذي ينفع المسلمين ويحقق المصلحة الشرعية، والحديث يدل على أن العمل الذي يصدق عليه أنه استنان، يتصف بالأمور التالية:
1 - أنه حديث أو جديد، لأنه وجه أنظار الناس إلى شيء لم يكونوا قد عملوا به من قبل.
2 - أنه في الإسلام، أي في المجتمع الإسلامي وفي البيئة الإسلامية. وظاهر العبارة يشير إلى أن المقصود من السنة المبتكرة هو اتباع الإسلام، وإن كان هذا القصد وحده لا يكفي في اعتبار العمل نفسه إسلامياً.
3 - أنه يوصف بالحسن أو السوء، بحسب موافقته أو مخالفته لأحكام الشريعة ومقاصدها. لكن لا يلزم أن يعمل الناس بهذه السنة حتى تستحق هذا الوصف، لأن الأجر أو الوزر ثابت، سواء وجد الاتباع أو لم يوجد.
فإذا كانت السنة المبتكرة حسنة محمودة في الشرع، استحق مبتكرها مثل أجور من تبعه، ولا ريب أن هذا أجر عظيم، وفيه حث بليغ على المبادرة إلى الخيرات ودلالة المسلمين عليها.
أسباب الابتكار المالي
هناك عدد من النظريات حول أسباب وجود ونشوء الابتكار المالي. لكن يمكن تلخيصها في أنها استجابة لقيود معينة تعوق عن تحقيق الأهداف الاقتصادية، كالربح والسيولة وتقليل المخاطرة.
هذه القيود قد تكون قانونية، مثل منع عقود أو تعاملات معينة قانوناً. أو قيود تقنية مثل صعوبة نقل منتجات معينة، أو تحويل مواد إلى أخرى. أو قيود اجتماعية، مثل تفضيل نوع معين من المنتجات على أخرى. وبكلمة وجيزة: "الحاجة أم الاختراع"، فالحاجة لتجاوز هذه القيود لتحقيق الأهداف الاقتصادية هي التي تدفع المتعاملين للابتكار والاختراع، كما هو شأن النشاط البشري في سائر أوجه الحياة الإنسانية.
بين الإبداع والابتداع
ويضيف أنه "قد بين العلماء أن السنّة في الحديث ليست هي التشريع أو تغيير الحكم الشرعي، وإنما هي تحقيق مقاصد التشريع وامتثال أحكامه بأساليب رائدة قد لا تكون مطروقة من قبل. وسبب ورود الحديث يوضح ذلك، إذ قدم أناس على النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان حالهم من الفقر والفاقة ما جعله، صلى الله عليه وسلم، يقوم في الصحابة خطيباً ويحثهم على الصدقة، فبادر رجل فأتى بشيء، ثم تبعه على ذلك ثان وثالث، إلى أن اجتمع مال طيب، فأثنى، صلى الله عليه وسلم، حينئذ على من بادر بالمعروف فذكر الحديث. وسبب ورود الحديث وإن كان يبين معناه، لكنه لا يخصص دلالته، فهي عامة لكل من قدم عملاً نافعاً للمسلمين، واستحق أن يوصف بأنه قد "سنّ" ذلك العمل".
يوضح ذلك أن قوله، صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة" يدل على وصف العمل بالحسن، لا يكون ذلك إلا بموافقة الشرع. فلو كانت السنّة المذكورة تغييراً للشرع لما كانت حسنة. فجانب الاختراع أو الابتكار المشروع هو في الدرجة الأولى في التطبيق أو التنفيذ للحكم الشرعي، كما ورد في الحديث، وليس في الحكم نفسه.
لكن هناك جوانب أخرى للإبداع: إذ لا ريب أن الفقهاء قد اختلفوا في كثير من الأحكام، ومن الممكن ترجيح بعض هذه الأقوال بعلل أو أدلة جديدة. وإذا كانت هذه الأقوال خلاف مذهب الجمهور، فإن أحياء هذا القول طالما كان ذلك يخضع للمنهج العلمي في الاستدلال والترجيح ويحقق مصلحة المسلمين، هو سنة حسنة، مثال ذلك أخذ المجمع الفقهي ببيع العربون، مع أنه لم يقل به من أصحاب المذاهب المتبوعة سوى الإمام أحمد، ففي إحياء هذا القول تحقيق لمصلحة المسلمين وتيسير لمعاملاتهم دون إخلال بقاعدة شرعية أو حكم شرعي ثابت.
ومن جوانب الإبداع، استنتاج علة جديدة للحكم الشرعي إذا كان في الأصل معللاً، أو يقبل التعليل، فيبين الباحث نوع العلة التي يبني عليها الحكم، ثم يبين انتفاء الحكم عند انتفاء العلة. مثال ذلك، تعليل شيخ الإسلام للبيع قبل القبض بأنه فوات فرصة الربح إذا رأى البائع أن المشتري قد باعه بربح، فيجحد البيع ويمنع تسليم المبيع، بينما علل من قبله من الفقهاء إنه شبهة الربا، أو لتوالي الضمانين، أو لغرر انفساخ العقد، أو لإظهار المبيع، خصوصاً الطعام، وبعضهم اختار أن النهي تعبدي غير معقول العلة، وبناء تعليل شيخ الإسلام ذكر أن البيع إذا كان تولية ( برأس المال ) أو وضيعة ( بخسارة ) أو كان مجرد هبة، لم يشترط القبض في هذه الحالة لانتفاء العلة المرتبطة بالربح.
أما إذا كان الحكم الشرعي ثابتا، وكان محل إجماع ولا مجال لتعليله بما يعود عليه بالنقض مثل ربا الفضل وبيع الكالئ، فمجال الإبداع حينئذ هو في التطبيق والممارسة، بحيث تحقق المصلحة الشرعية دون إخلال بحكم الشرع ومقاصده، وهذا يؤكد خطأ الاتجاه الذي يسير فيه بعض الباحثين عند البحث عن حلول إسلامية لمشكلات الاقتصاد المعاصر، إذ يعمد بشكل أو بآخر إلى "تجميد" الحكم الشرعي الثابت وحجبه عن التطبيق في الواقع، فبدلاً من قبول التحدي والبحث عن أساليب جديدة يمكن من خلال تحقيق الحكم الشرعي ومقاصده، ينصب الاهتمام على تغيير الحكم الشرعي أو الالتفاف عليه.
المصدر الهيئة العالمية الإسلامية للاقتصاد والتمويل