الاقتصاد الرقمي.. يفيض موارد ويقطر فقرًا
يتشعب الاقتصاد الرقمي داخل كل النشاطات الاقتصادية
مع تزايد انخراط الثورة الرقمية في نسيج الحياة اليومية، يتعمق التشابك بين التطورات التقنية من جهة والبنى الاجتماعية والاقتصادية من الجهة الأخرى. حيث جاءت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في عصرنا الحالي لتعلن ميلاد فرع جديد ومميز من فروع الاقتصاد يطلق عليه اصطلاحا الاقتصاد الرقمي "Digital Economy" أو اقتصاد المعرفة ” knowledge Economy”. وبخلاف فروع الاقتصاد التقليدية فإن هذا الفرع الجديد من الاقتصاد له خصائصه الفريدة التي تبشر بحل معضلة التنمية بأبعادها المختلفة.
كانت لكتابات عالمي الاقتصادDrucker وVarian الفضل في تحديد معالم الاقتصاد الرقمي الذي ساهم بالرغم من حداثته بنسبة كبيرة من الناتج القومي للدول الأكثر تقدما، في حين تضاءلت مشاركة القطاعات التقليدية كالرعي والزراعة والصناعة في ناتجهم المحلي.
وانعكست تطبيقات هذا الاقتصاد على طبيعة بيئة أعمال الشركات؛ فلم تعد المنافسة بين الشركات هي المصدر الأساسي لتهديد وجودها واحتل هذا الدور الآن جهود القرصنة على البرمجيات والشبكات التي يقوم بها الأفراد. كما ساهم في خلق وظائف ودخول عبر توليد الإشارات الإلكترونية ونسخ البرمجيات ونشر المعرفة عموما.
موارد لا تنضب
واستطاع الاقتصاد الرقمي كذلك أن يضيف عناصر جديدة للموارد الاقتصادية المعروفة، حيث أضاف الترددات المخصصة لشبكات اللاسلكي بالمجال الجوى إلى قائمة الموارد الطبيعية غير الناضبة مثلها مثل الشمس والرياح -كمصادر للطاقة المتجددة- فاستخدام هذه الترددات لا يعرضها للنضوب أو النقص.
كما أن إنتاج المنتجات الرقمية والبرمجيات عموما لا يؤدي إلى نضوب الموارد الاقتصادية، بل إن استغلال تلك الموارد غير الناضبة كترددات شبكات المحمول بأجياله الثلاثة قد مكن الحكومات من الحصول على بلايين الدولارات من عائدات بيعها وتخصيصها.
وسعيا لكسر احتكار هذا المورد الرقمي تم الاتفاق عالميا على اعتبار التردد2.4GHZ متاحا لاستخدام جميع الأفراد بدون ترخيص من أي جهة.ويتم استخدام هذا التردد في الشبكات غير التجارية وتطوير النقاط الساخنة“WiFi hotspots” التي تسمح بالاتصال اللاسلكي مع الإنترنت عبر تقنية واي-فاي((Wireless Fidelity في المقاهي والمطارات والمطاعم والمكتبات العامة، وهي خدمة منتشرة بكثرة في دول العالم المتقدم. ويعمد البعض إلى تقديمها مجانا كوسيلة لجذب الزبائن.
تكلفة تخزين وإنتاج منخفضة
ولأن تكلفة إنتاج أي سلعة هي حجر الأساس لتحديد سعرها فإن تكلفة إنتاج الوحدة في أي من المنتجات الرقمية منخفضة نسبيا؛ نظرا لأن إنتاج ونسخ منتجات الاقتصاد الرقمي لا تحتاج إلى مصانع وخطوط إنتاج كبيرة بل يمكن إنتاجها بمعامل وأماكن صغيرة يتم فيها البحث والتطوير وكذلك الإنتاج.وعلى سبيل المثال فمكالمات المحمول وخدمات رسائله القصيرةSMS التي حققت بلايين الدولارات خير مثال لذلك برغم أن تكلفة الوحدة المنتجة من أيهما تكاد تساوي الصفر.
ولا يعاني الاقتصاد الرقمي من مشكلة ندرة الموارد الاقتصادية؛ فإنتاج وحدة إضافية من البرمجيات -أو المحتوى الرقمي عموما- لا تحتاج لموارد مالية وبشرية كبيرة. حيث يمكن لعامل واحد أن ينتج عشرات النسخ من مايكروسوفت أوفيس”Microsoft Office” أو أي من البرمجيات في اليوم الواحد.
أما تكلفة تخزين هذا النوع من المنتجات فهي قليلة جدا بالمقارنة بالقيمة المضافة لهذا المنتج أو المنفعة المتولدة عنه. وبذلك فإن مشاكل تكلفة إنتاج وتخزين وحدة إضافية من المنتجات الرقمية تكاد تكون منعدمة مقارنة بالسلع الأخرى كالسيارات والملابس والأحذية.
عائدات غير مباشرة
ميزة أخرى للاقتصاد الرقمي هي تزايد أهمية ودور العائدات غير المباشرة الإيجابية أو ما يعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ "”Economic externalities، وهي المنافع أو الأضرار غير المباشرة التي تعود على الآخرين عندما يستخدم فرد ما منتجا أو سلعة معينة.
وتنبع هذه الميزة من الطبيعة التشابكية لمستخدمي شبكات الإنترنت والمحمول عموما. فعندما يقوم الفرد بإرسال رسالة إلكترونية أو رسالة محمول إلى فرد آخر، فإن كلاً من المرسل والمستقبل يستفيد من هذه الخدمة. وبذلك فإن مستقبل الرسالة قد استفاد من هذه الخدمة بطريقة غير مباشرة دون أي تكلفة إضافية. وإذا أخذنا في الاعتبار قدرة المستقبل على إعادة إرسال وتدوير هذه الرسائل مرة أخرى فسنجد أن المنافع غير المباشرة لهذه الخدمة يمكن أن تتضاعف لدرجة كبيرة جدا.
تزايد الاحتكارات
يعاني الاقتصاد الرقمي من مشكلة أساسية تتعلق بأهمية حقوق الملكية الفكرية والتي ترتبط باختراع وتطوير النسخة الأصلية من المنتج أو -KNOW HOW- وهذا قد يتطلب موارد مالية باهظة في مرحلة البحث والتطوير. حيث تتميز تلك المرحلة بالمخاطر العالية، فقد يتم استثمار مبالغ هائلة دون التوصل إلى اختراع جديد أو تطوير المنتج الأصلي. فنسبة الأبحاث الناجحة لهيئة العلوم الأمريكية (National Science Foundation) هي 17% فقط لعام 2005 والنسبة الباقية من استثمارات البحث والتطوير لم تؤد إلى النتائج المرجوة.
وبرغم ما لحقوق الملكية الفكرية من أهمية فإنها ساعدت على احتكار بعض الشركات للترددات وحق استعمال الشبكات الأرضية والتراخيص التجارية لمنتجات تكنولوجيا المعلومات.
ويخفف من حدة هذه المشكلة جهود قانونية كتطوير برمجيات وتطبيقات مجانية مثل أشباه اليونيكس والمصادر المفتوحة المتاحة للبرمجيات على الشبكة العنكبوتية Open source software أو من خلال جهود غير قانونية كالقرصنة.
العمالة وعدالة التوزيع..ضحية
ورغم ما للاقتصاد الرقمي من مميزات فإن صناعة المعلوماتية برزت كتهديد كبير للعمالة والتشغيل بفضل عدم احتياجها لعمالة كثيفة؛ نظرا لقدرتها الفائقة على توفير الوقت والجهد خلال الإنتاج.
أما فجوة الدخول فستتحول إلى فجوة رقمية"Digital divide"ستنتج من إعادة توزيع الثروة لصالح القادرين على الحصول على هذه المعرفة وتكنولوجيا المعلومات عموما. وربما تساهم هذه الفجوة في ظهور نوع جديد من الفقر هو "الفقر المعلوماتي". حيث سيتحول تركز الثروة نتيجة لذلك من الفئة التي تملك السلع العينية كالعقارات والأرض إلى مالكي البرمجيات وبراءات الاختراع وأصحاب حقوق الملكية الفكرية وتراخيص الترددات... إلخ.
وما حققته شركة جوجل الشهيرة من بلايين الدولارات عبر عوائد الإعلانات ورسوم المعاملات التجارية الإلكترونية التي تتم من خلال محركها الشهير مثال مُعبّر عن هذا التحول، وكذلك بلايين الدولارات التي حصل عليها بيل جيتس مؤسس مايكروسوفت من بيع منتجاته.
ومن ثم فمن المتوقع أن تتفاقم معدلات البطالة، فضلا عن الهوة بين الفقراء والأغنياء وظهور عصر جديد تنعدم فيه العدالة الاجتماعية، وذلك بالرغم من تزايد معدلات النمو الاقتصادي بفضل الوفورات الاقتصادية الناجمة عن المعرفة والاتصالات.
تحديات وآمال
بعد ما استعرضناه من أهم مزايا وعيوب هذا النوع غير التقليدي من الاقتصاد، يتضح مدى الحاجة لتطوير واقعنا وتغيره ليتقبل التعامل بمرادفات اقتصاد المعرفة؛ فالإصلاح التنظيمي والتشريعي، وتطوير نماذج العمل“business models “ بالإضافة إلى توفير سياسات تسعيرية خاصة بالمنتجات الرقمية هي احتياجات أساسية للاستفادة من الاقتصاد الرقمي. حيث لا يعتمد تسعير المنتجات الرقمية غالبا على تكاليف الوحدة المنتجة بقدر ما يعتمد على قيمة السلعة من المنظور الشخصي”personalization” أو تكلفة الفرصة البديلة” opportunity cost” أو تكلفة البحث والتطوير لهذه السلعة أو الخدمة المنتجة.
فمعظم شركات خدمات الجوال في الولايات المتحدة الأمريكية تعطي مكالمات مجانية في أثناء الليل وخلال العطلات؛ وذلك لأن تكلفة الفرصة البديلة لاستخدام هذه الشبكات في أثناء مثل هذه الأوقات تكاد تكون مساوية للصفر. أما في أثناء أوقات العمل فإن تكلفة الفرصة البديلة لاستعمال هذه الشبكات تكون عالية ومن ثم أسعار المكالمات.
ويمكن القول بأن تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات مرشحة لأن تكون المحرك الأساسي للتنمية الشاملة أخذًا في الاعتبار الخصائص المميزة للاقتصاد الرقمي والتطبيقات العديدة لتكنولوجيا المعلومات في جميع مناحي الحياة، ولا سيما التجارة الإلكترونية والطب الإلكتروني، والصناعة الإلكترونية، والحكومة الإلكترونية والتعليم الإلكتروني وكل ما له علاقة بقطاع الاتصالات والمعرفة عموما.
بذلك فقد حان الوقت لبناء مجتمع عربي قائم على المعرفة والاتصالات، بدل الاستمرار في الاعتماد على الأصول العينية والموارد الطبيعية مثل البترول والمعادن وغيرهما.