د. نادر فرجانى
مدير مركز "المشكاة" للبحث، مص
العائد على التعليم العالي:
العائد المجتمعى - مقارنة دولية:
على نقائصها المعروفة، توفر المقارنات الدولية إطاراً مرجعياً مفيداً للتعرف على الملامح العامة لظاهرة ما. ويزيد من فائدة المقارنات الدولية، تداعى الحدود بين الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية في سياق العولمة. كذلك تفيد المقارنات الدولية بشكل خاص في تبين مدى اتساق مجموعة معينة من الدول مع النمط العام، أو تباعدها عنه. وجلى أن هذا اعتبار مهم عند الاهتمام بمجموعة محددة من بلدان العالم، مثل البلدان العربية في حالتنا هذه.
ونسعى هنا لإنشاء علاقة بين مستوى الناتج الاقتصادى على جانب، ومدى انتشار التعليم العالي على جانب آخر، في العالم المعاصر، باستخدام بيانات عن بلدان العالم في التسعينيات الأولى.
وحيث تسود الاعتبارات الاقتصادية في عالم اليوم، اعتمدنا مقياس الناتج المحلى الإجمالى للفرد (بدولارات معادل القوة الشرائية[3] في 1993) كمؤشر عام على الإنتاجية الاقتصادية، والرفاه المادى، للفرد من السكان. وهو مؤشر مهم، وإن كان قاصراً، في تقديرنا الخاص، حتى في التعبير عن الرفاه الاقتصادى بالمعنى الضيق، فهو لا يهتم، مثلاً، بقضية التوزيع.
وعلى جانب التعليم، اتخذنا مقياس عدد الطلبة في المرحلة الثالثة من التعليم لكل 100 ألف من السكان في عام 1994[4].
ويعانى هذا المؤشر من عيبين. الأول، أن الالتحاق بالتعليم في فترة زمنية معينة لا يعبر عن تراكم تكوين رأس المال البشرى على المستوى التعليمى العالي في المجتمع. وحيث التعليم العالي أحدث كثيراً في البلدان المتخلفة، فإن استخدام هذا المؤشر يؤدى إلى التهوين من الفوارق بين البلدان المتقدمة والمتخلفة في مدى تملكها لرأس المال البشرى الذى يتكون من خلال مؤسسات التعليم العالي.
أما العيب الثانى فيعود إلى أن البلدان المتقدمة تختلف عن تلك المتخلفة جوهريا في التوزيع العمرى للسكان، بحيث تزيد نسبة السكان في سن التعليم عموما، والتعليم العالي خاصة، في البلدان المتخلفة عن المتقدمة. ويعنى ذلك أن استعمال مؤشر عدد الطلبة الملتحقين بالمستوى الثالث من التعليم كنسبة من السكان يقلل من الفجوة بين البلدان المتقدمة والمتخلفة في مدى انتشار التعليم العالي.
كذلك يتعين الإشارة إلى أن هذا المؤشر يقارب كم التعليم العالي وليس نوعيته. فقد يتساوى مجتمعان في الرصيد الكمى للتعليم العالي ولكن يبز أحدهما الآخر في النوعية الأمر الذى يرتب فارقاً ضخماً في مجال العائد على انتشار التعليم العالي. وللأسف لا تتوفر بيانات جيدة، ومقارنة، عن نوعية التعليم العالي.
وقد توفرت لنا قيم المؤشرين في 149 دولة، مما يوفر أساساً معلوماتياً متيناً لمناقشة العلاقة محل الدراسة. ويمثل شكل (1) العلاقة بين المؤشرين، حيث يرمز لكل بلد بالحروف الثلاثة المستعملة اختصاراً لاسمه باللغة الإنجليزية.
وتقوم علاقة طردية واضحة بين المؤشرين المعتبرين حيث ترتبط المستويات الأعلى من الناتج للفرد بزيادة انتشار التعليم العالي (معامل ارتباط = +0.6). ولكن نمط العلاقة، وموقع بعض التجمعات الدولية عليه، يوضحان استخلاصات مهمة.
أولاً تتجمع غالبية البلدان المتخلفة في الركن الأيسر السفلى من شكل الانتشار، حتى يستحيل التمييز بين رموزها. في هذه البلدان يترافق ندرة التعليم العالي مع قلة الناتج الاقتصادى للفرد.
غير أن الأهم هو ملاحظة أن موقع مجموعتين من الدول يتباعد عن النمط العام للعلاقة بما يقلل من قوتها. فتتسم بعض البلدان بمعدلات ناتج أعلى مما يتسق مع انتشار التعليم العالي بها، وتغلب على هذه المجموعة البلدان العربية المنتجة للنفط، الذى يمثل الجزء الأكبر من الناتج بها ريعاً rent على ميزة مكانية وليس إنتاجاً بالمعنى المتعارف عليه مما يؤدى لكسر العلاقات بين مقاييس الناتج للفرد والعوامل المختلفة التى ترتبط بها عادة في مثل هذه الدول الريعية (يؤدى استبعاد البلدان العربية المنتجة للنفط إلى زيادة معامل الارتباط بين المؤشرين المعتبرين إلى حوالى 0.7).
شكل (1)
العلاقة بين الناتج المحلى الإجمالى للفرد ومستوى الالتحاق بالمستوى الثالث من التعليم
وعلى العكس، تتسم مجموعة أخرى من الدول باقتران مستوى مرتفع نسبياً من انتشار التعليم العالي بمعدلات منخفضة نسبياً من الناتج للفرد. وبتأمل رموز هذه المجموعة يتضح أنها تتكون أساساً من الدول التى كانت تنتمى إلى الاتحاد السوفييتى، والتى ما فتئت تعانى من أزمة اقتصادية حادة (يؤدى استبعاد هذه المجموعة من البلدان، بالإضافة إلى البلدان العربية المنتجة للنفط، إلى زيادة معامل الارتباط بين المؤشرين المعتبرين إلى قرابة 0.
.
وعند استبعاد هذين المجموعتين الاستثنائيتين، يتبلور نمط العلاقة في اقتران المراحل الأولى من انتشار التعليم العالي بزيادة سريعة في الناتج للفرد. ثم يتباطأ معدل الزيادة في الناتج للفرد استجابة للانتشار الأوسع في التعليم العالي بعد ذلك.
في المنظور الاقتصادى إذا، يرتب انتشار التعليم العالي عائداً مجتمعياً مهماً، خاصة في المراحل الأولى. وفي الحدود التى يرتبط بها ارتفاع الناتج بتحسن فرص التقدم المجتمعى، يمكن القول بأنه لاغنى لصناعة التقدم في البلدان المتخلفة عن نشر التعليم العالي.
والواقع أن الدور المحورى الذى يلعبه التعليم العالي في تنمية المجتمعات المتخلفة، والذى سنشير إليه في القسم التالى، يرتب عائداً مجتمعياً على التعليم العالي يفوق، بمراحل، ما تقول به الحسابات الاقتصادية.
وتجدر الإشارة إلى أن الحسابات الاقتصادوية economistic للعائد على التعليم التى تقول بها مؤسسات التمويل الدولية، خاصة البنك والصندوق، تهمل هذا العائد المجتمعى في تركيزها على العائد المالى الفردى: للأسر والأفراد. وعندنا أن العائد المجتمعى أهم، في منظور التنمية، من العائد الفردى بما لا يقاس. ولكن لننظر في العائد على التعليم العالي على المستوى الفردى.