الأوقاف ودورها في تشييد بنية الحضارة الإسلامية
إعداد
أ . د . عبد الرحمن الضحيان
ملخص البحث :
يتكون البحث من سبعة فصول بالإضافة إلى كلمة شكر وتقدير والمقدمة وصفحة المحتويات والخاتمة والتوصيات وقائمة المراجع .
أما الفصول فهي :
الفصل الأول : موضوعات عامة حول الموضوع : وتم تناول عدد من العناوين ذات العلاقة مثل تعريفات مهمة للوقف والأدلة على مشروعية الوقف في الإسلام من القرآن الكريم والسنة النبوية والأدلة الفعلية ... تم الحديث عن شخصية الوقف من الناحيتين النظامية ( القانونية ) والتأكيد على إن للوقف شخصية اعتبارية أو حكمية وله ذمة مالية وحق التملك ... ثم الحديث عن أركان الوقف ... وشروط ناظر الوقف ومحاسبيه ... والأوقاف من المنظور الاقتصادي الإسلامي والوضعي وأخيراً الوقف على لسان الشعراء ...
الفصل الثاني بعنوان : الدور الديني للأوقاف في الحضارة الإسلامية :
وتناول الفصل دور المسجد الذي للأوقاف الفضل في التوسع في تأسيسه وتم التأكيد على دور المسجد في الحياة الإسلامية حتى أصبح المسجد بيت مال للمسلمين والمدرسة والمعهد والجامعة لتخريج جميع الكفاءات في كل التخصصات وكل ذلك بأموال الأوقاف ...
الفصل الثالث بعنوان : الدور العلمي والثقافي للأوقاف
وتم التأكيـد فيه على ما قدمته الأوقاف للثقافة والعلم والعلماء وطلبة العلم من المدد والعون المادي حتى أصبح لها شأن عظيم على الحضارات الأخرى ...
الفصل الرابع بعنوان : الدور الاجتماعي والإنساني للأوقاف :
وفيه تم التأكيد على دور الأوقاف في رعاية وحماية المجتمع المسلم بما أمدته من المال والعون، وخاصة للفئات المحتاجة وقد غرس هذا في النفوس الحب والتآخي والإنسانية ...
الفصل الخامس بعنوان : الدور الصحي للأوقاف:
وفي هذا الفصل تم التأكيد على ما قدمته الأوقاف من العناية والرعاية للجانب الصحي مثل إنشاء المستشفيات وتوفير الدواء والعلاج المجاني والوقاية والرعاية الصحية لكل الفئات ...
الفصل السادس بعنوان : الدور الحربي للأوقاف :
ومن ابرز ما قدمته الأوقاف للحضارة الإسلامية المدد والعون للجيوش الإسلامية سواء على الحدود أو حماية الأمن الداخلي وفك الأسرى وتعزيز الجهاد بأموال الأوقاف .
الفصل السابع بعنوان : الدور الصناعي للأوقاف :
وتم تناول دور الأوقاف في مساندة المنظمات الدولية الإسلامية وكذلك دورها في حماية ورعاية الأقليات الإسلامية في العالم ... تم الحديث عن موقف أعداء الإسلام ومحاربتهم للأوقاف وتم اختتام البحث بتوصيات لتعزيز وعودة الأوقاف إلى الحياة الإسلامية بمفهوم وإدارة جديدة. والله الموفق .
شكر وتقدير
أشكر لله تعالى على توفيقه في بداية البحث ونهايته .. ثم الشكر لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ممثلة في مكتبة الملك عبدالعزيز بالمدينة المنورة لدعوتهم لي، للكتابة في موضوع (( الأوقاف ودورها في تشييد بنية الحضارة الإسلامية )) ، كما أخص بالشكر معالي أ. د. عبدالله الشبل، مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - التي أتشرف في الانتساب إليها - على موافقته الشخصية وتشجيعه على المشاركة والكتابة في هذا البحث.
ولعل من توفيق الله وحسن الحظ، وجود معرضٍ للكتاب بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ( بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة ) وقد وجدت في هذا المعرض من المراجع الخاصة بالأوقاف الإسلامية وبالأخص مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية، مما يسرني أن أشكر هذه الوزارة على طبعها ونشرها العدد الكبير من المؤلفات القيمة والخاصة بالأوقاف الإسلامية بشكل عام والأوقاف في المغرب بشكل خاص وأعدها كنزاً فكرياً في هذا المجال. هذا بالإضافة إلى ما وجدته في مكتبتي الخاصة من بحوث نادرة عن الأوقاف في العالم الإسلامي من منظور معاصر مما ساعد فعلاً على وضع الخطة العلمية اللازمة لمثل هذا البحث، الجديد في طرحه - كما اعتقد - هذا وقد عزم الباحث وتوكل على الله -بسبب هذا البحث- في تأليف كتاب عن: الأوقاف الإسلامية من منظور معاصر، بعنوان: (( الأوقاف الإسلامية ودورها في التنمية بين الماضي والحاضر والمستقبل )) إن شاء الله تعالى.
والله الموفق.
المقدمة :
الحمد لله حمد الشاكرين، المعترفين بفضل الله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين أول من وجه بالوقف، وجعله سنة حسنة يستفيد منها الفقراء والمساكين، وغيرهم.
عُرفت الأحباس أو الأوقاف منذ دخول المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة ثم سادت في كل أمصار الإسلام وأصبحت عاملاً مهماً من عوامل الرُقي والتقدم في الحضارة الإسلامية، ذلك أن الأوقاف شملت جميع أنواع الحاجات سواء الاقتصادية أم الاجتماعية أم العلمية أم الصحية أم الحربية.
لذا عرفها واستفاد منها كل فرد من أفراد الأمة حاكماً أو محكوماً.
مظاهر الاهتمام بالأوقاف:
يزداد الاهتمام بالأوقاف -في بعض الدول الإسلامية- ومن مظاهر ذلك:
1- وجود وزارة خاصة بالأوقاف في بعض الدول الإسلامية أو إدارة متخصصة.
2- عقد مؤتمرات وندوات خاصة بالأوقاف.
3- عقد مسابقات علمية للبحوث في مجال الأوقاف.
4- تسجيل رسائل علمية عليا (ماجستير ودكتوراة) في موضوع الأوقاف.
5- طبـع ونشر المؤلفات الخاصة بالأوقاف من قبل الوزارات الخاصة بالأوقاف أو من قبل المؤسسات العلمية والمؤلفين.
إن الأوقاف الإسلامية لها دور مميز في الحياة الإسلامية عبر التاريخ والحضارة الإسلامية، وإني لأقف عاجزاً عما كانت تسديه الأوقاف من أعمال جليلة في شتى شؤون الحياة الإنسانية والحيوانية، ولا عجب فقد امتد أثرها إلى علاج الحيوانات والطيور وتغذيتها والعناية بها.
تناولت في هذا البحث دور الأوقاف، في سبعة فصول جاء تفصيلها في صفحة المحتويات، وتمثلت في الدور الديني والصحي، والعلمي والاجتماعي والحربي، ثم دور الأوقاف في العالم وخاصة تجاه الأقليات الإسلامية. والله الموفق.
الفصل الأول
موضوعات عامة حول الموضوع
1- تعريفات:
أ- الوقف: (( The Trust )) يعني ما قاله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: (( احبس أصلها وسبل ثمرتها )) فالوقف بهذا النص يعني: عدم التصرف في الأصل الموقوف والتصرف في عوائده واستثماراته في مجالات البر والإحسان.
ب- الدَّور: ما تقوم به الأوقاف من عمل خيري قرره الواقف لمصلحة الموقوف عليه.
ج- التشييد: هو البناء، وبالتحديد وضع القواعد الأساسية للبناء.
د- البنية: هي القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها القواعد والأعمدة للبناء الحضاري.
هـ- الحضارة: هي المعالم المتطورة المتميزة في كل الشؤون من حياة الأمة ... كما أنها فترة تاريخية في حياة كل أمة تسود ثم تبيد وتسود وهكذا.
و- الحضارة الإسلامية: المعالم المتطورة والمتميزة في حياة الأمة الإسلامية التي اهتدت في بنائها الحضاري بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتطبيق العملي من خلال السيرة النبوية ... في بناء الدولة الإسلامية الأولى وما تلاها من الدول التي سادت ثم بادت لابتعادها عن المنهج الأصلي وستعود للسيادة إذا عادت للأصول.
ومن خلال التعريف بمفردات عنوان البحث، يتضح أن للأوقاف دوراً وعملاً مميزاً وعظيم في بناء القاعدة الأساسية التي قامت عليها وبرزت من خلالها المعالم والتطورات في مسيرة وتاريخ الأمة الإسلامية المهتدية بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتطبيق العملي لهذا الهدي كما ظهر جلياً في بناء الدولة الإسلامية الأولى في العهد النبوي.
2- الأدلة على مشروعية الوقف في الإسلام:
أ- الأدلة من القرآن الكريم:
حثَّ القرآن الكريم في آيات كثيرة على فعل الخير، والبر والإحسان، وهذا ما يعنيه ويهدف إليه الوقف، ومن الآيات الكريمة الدالة على استحسان الوقف ما يلي:
- { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }[آل عمران، 92].
- { وافعلوا الخير لعلكم تفلحون }[الحج، 77].
- { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون }[البقرة، 280].
- { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة }[المائدة، 35].
- { وما تفعلوا من خير فلن تكفروه }[آل عمران، 115].
هذه الآيات العظيمة وغيرها من كتاب الله العظيم أعظم دليـل على مشروعية الأوقاف في الحياة الإسلامية ومشروعية ظهور هذا الجهاز والمؤسسة ذات النفع العام والخاص بين فئات الأمة والتي عرفت بالأحباس أو الأوقاف وديوان الأوقاف ثم وزارة الأوقاف في الوقت الحاضر.
ب- الأدلة القولية من السنة النبوية:
وتحقيقاً للمعاني الفاضلة من الأوقاف فقد طبق ثم حثَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم على استحسان الوقف ومن الأدلة على ذلك:
* قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما غنم أرضاً بخيبر: (( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بثمرتها )).
* قال أنس بن مالك فلما نزلت الآية: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قام أبو طلحة فقال يا رسول الله إن أحب أموالي بيرحاء وإنها صدقة لله. أرجو برَّها وذُخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعله في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة بين بني عمه وأقاربه ... )).
* قوله صلى الله عليه وسلم (( إذا مات ابن آدم إنقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ... ... )) فالوقف صدقة صدقة جارية يبتغي الواقف أجرها في الدنيا والآخرة.
* إن نصوص الأحاديث الشريفة تدل على مشروعية الأوقاف لما لها من دور فعَّال وخير كبير بين المسلمين.
جـ- الأدلة الفعلية من السنة النبوية:
وتطبيقاً لما حثَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم من إجراء الوقف على أعمال البر والخير، فقد أسس أول مسجد في الإسلام (( مسجد قباء )) وهو أول وقف ديني في الإسلام ... ثم المسجد النبوي الذي بناه بعد وصوله المدينة وأوقفه للعبادة ... وفي الحديث (( أنه صلى الله عليه وسلم قال لبني النجار في الحائط الذي بنى مسجده فيه: يا بني النجار هل تأمنوني بحائطكم هذا فقالوا: لا، والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله )) رواه البخاري بهامش فتح الباري ج5، ص263([1]).
وأول وقف من (( المستغلات الخيرية )) ما وقفه النبي صلى الله عليه وسلم وهو سبعة حوائط ( بساتين )، وهي التي تركها مخيريق اليهودي، الذي قُتل في غزوة أحد وكان قبل موته أوصى بأمواله للنبي صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء، فلما قُتل قال عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم (( مخيريق خيرُ يهود )) فتصدق بها النبي أي أوقفها([2]).
تلك نماذج من الأدلة العملية التي أرساها الهادي البشير صلى الله عليه وسلم في مشروعية إقامة الأوقاف لصالح المسلمين سواء لعبادتهم مثل المساجد ... أو للعمل الخيري بجميع أنواعه ... ولجميع المحتاجين إليه.
د- الأدلة الفعلية للصحابة والتابعين:
يقتدي الصحابة الأجلاء بقدوتهم ومثلهم الأعلى النبي صلى الله عليه وسلم لذا فعندما أقرَّ عليه السلام لعمر ولأبي طلحة رضي الله عنهما بوقف ممتلكاتهما لأعمال البر والخير توالى وتسابق الصحابة في الوقف، الذي كان يُعرف بالصدقة والحبس ... فأوقف عثمان رضي الله عنه من أمواله ... وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تصدق بأرضه (( ينبع )) حبساً وصدقةً على الفقراء والمساكين وقد بلغ قِطَافُ نخيلها في عهده رضي الله عنه حِمْلَ ألف بعير ... ( ولعلها المعروفة الآن بينبع النخل )، وكذلك وقف الزبير بن العوام بيوته على أولاده، لا تباع ولا تورث ولا توهب ، كما شرط أن للمطلقة من بناته أن تسكن غير مُضرَّةٍ ولا مُضرّ بها .. فإذا تزوجت فليس لها حق .. إلا ما لغيرها من ثمر الوقف .. وكذلك سائر الصحابـة والصحابيـات مثل أم المؤمنيـن عائشة رضي الله عنها وأسماء بنت أبي بكر، ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد .. وغيرهم مما يدل على تسابق الصحابة والصحابيات على البرّ والخير في الدنيا والآخرة إقتداءاً واهتداءاً بسيد البشرية صلى الله عليه وسلم([3]).