بقلم
أ.د. عبد الحميد محمود البعلي
أستاذ الفقه المقارن والاقتصاد الإسلامي
رئيس قسم الاقتصاد بكلية الشريعة جامعة الإمام
محمد بن سعود الإسلامية بالجنوب ( سابقاً )
المستشار باللجنة الاستشارية العليا للعمل على
استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية
بالديوان الأميري - الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الـتـورّق
الجائز والممنوع شرعاً
يقول الله تعالى :
"قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون" يونس / 95
أولاً : ما هو التورق ؟
1- معنى التورق في اللغة :
التورّق مصدر تورق والورِق بكسر الراء الدراهم المضروبة من الفضة وقيل الفضة مضروبة أو غير مضروبة ([1]) .
2- معنى التورق في اصطلاح الفقهاء :
هو أن يشتري رجل سلعة نسيئة ثم يبيعها نقداً بأقل مما اشتراها به لغير البائع له ([2]) .
وبعبارة أخرى هو :
أن يشتري السلعة بثمن مؤجل أو مقسط ويبيعها لآخر بثمن معجل ليحصل على الورِق ليسد به حاجته.
ولم يرد هذا المصطلح (التورق) إلا عند فقهاء الحنابلة أما غيرهم فقد أدرجوا حكم التورّق (الزرنقة) تحت بيع العينة ([3]) .
يقول ابن تيمية لو كان مقصود المشترى الدراهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى "التورّق".
وعرفه المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ([4]) فقال :
إن بيع التورق هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجل ثم يبيعها المشترى بنقد لغير البائع للحصول على النقد (الورِق).
ثانياً : مكونات عملية التورق ومراحلها المختلفة :
1- في مرحلة أولى تتكون عملية التورق من عميل (متورق / مستورق) طالب النقد / السيولة وبائع (فرد / مؤسسة) يملك السلعة وفي حوزته يبيعها للعميل بعقد بيع صحيح مستجمع لشرائطه الشرعية بثمن مؤجل.
2- في مرحلة أخرى يبيع العميل نقداً (المتورق / المستورق) ما ملكه من سلعة بعقد صحيح مباشرة أو بواسطة للغير أو غير البائع الأول له بثمن حال.
3- تمايز عقد البيع الأول بين (المتورق / المستورق) والمؤسسة المالية عن عقد البيع الثاني بين المتورق والغير وعدم الارتباط بين العقدين وانفصالهما تماماً.
4- انعدام الصورية أو التواطؤ بين المتورِق والمؤسسة المالية.
ثالثاً : ما هو الهدف من التورق ؟
الهدف من عملية التورق هو الحصول على النقد (الوَرِق) حالاً ليسد به حاجته. وهذا هو معنى قولهم : استورق الرجل : أي طلب الوَرِق (الدراهم).
وفي عرف المؤسسات المالية والمصارف : تمكين العملاء من الحصول على السيولة النقدية.
رابعاً : ما حكم التورق ؟
التورق كما سبق تعريفه من أنه بيع ما اشتراه بالأجل بنقد حال أقل منه اختلف الفقهاء في حكمه.
1- ذهب جمهور العلماء إلى إباحته وجوازه شرعاً ونقل الأزهري والفيومي الاتفاق على إباحته ([5]) لأن الأصل في البيع الإباحة لقوله تعالى : "وأحل الله البيع" البقرة / 275، ولأنه بيع لم يظهر فيه قصد الربا ولا صورته.
ولحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي سعيد الخدرى وأبى هريرة رضي الله عنهما : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءهم بتمر جنيب (طيب) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَكُلُّ تمر خيبر هكذا ؟ قال : لا والله يا رسول الله إنّا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال : لاتفعل، بع الجمع (نوع رديء من التمر) بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا (نوع جيد من التمر) ([6]).
وهذا الحديث صريح في التورق لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين أن يشتري من المشتري أو غيره ([7]).
2- قال ابن الهمام هو خلاف الأول ووافقه صاحب البحر والنهر والشرنبلاليه غيرهم ([8]).
3- يقول ابن تيمية رحمه الله ([9]) إن المشتري تارة يشتري السلعة لينتفع بها وتارة يشتريها ليتجر بها، فهذان جائزان باتفاق المسلمين، وتارة لا يكون مقصوده إلا أخذ دراهم، فينظر كم تساوي نقداً فيشتريها إلى أجل ثم يبيعها في السوق بنقد فمقصوده الورِق فهذا مكروه في أظهر قولى العلماء كما نقل ذلك عن عمر بن عبد العزيز وهو إحدى الروايتين عن أحمد قال عمر بن عبد العزيز : التورق أخيه الربا ، أو أصل الربا فإن الله حرّم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج وأكل ماله بالباطل وهذا المعنى موجود في هذه الصورة، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
وقال ابن عباس : إذا استقمت بنقد ثم بعت بنقد فلا بأس به وإذا استقمت بنقد ثم بعت نسيئة فتلك دراهم بدراهم. ومعنى كلامه إذا استقمت إذا قومت يعني : إذا قومت السلعة بنقد وابتعتها إلى أجل فإنما مقصودك دراهم بدراهم هكذا التورق : يقوّم السلعة في الحال ثم يشتريها إلى أجل بأكثر من ذلك فيكون مقصوده دراهم بدراهم والأعمال بالنيات. وفي موضع آخر يقول : إذا كان مقصود المشتري الدراهم وغرضه أن يشتري السلعة لأجل بيعها ويأخذ ثمنها فهذه تسمى "مسألة التورق" لأن غرضه الورِق لا السلعة فكرهه عمر بن عبد العزيز وطائفة من أهل المدينة : من المالكية وغيرهم وهو إحدى الروايتين عن أحمد ورخص فيه آخرون والأقوى كراهته غير أن المذهب عند الحنابلة على إباحته ([10]).
وقال ابن مفلح ولو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائتين فلا بأس نص عليه وهي التورّق وعنه يكره وحرمه شيخنا ([11]).
والمذهب عند الحنابلة إباحته ([12]).
خامساً : صورة التورق كما تجريه بعض المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية :
يقوم المصرف / المؤسسة المالية بشراء السلعة أصالة عن نفسه من البائع الأول بناءً على وعد من العميل (طالب النقد) بالشراء أو دون وعد مسبق بالشراء.
ثم يقوم المصرف / المؤسسة المالية بصفته وكيلاً عن العميل ببيع تلك السلعة التي آلت ملكيتها إلى العميل بعد بيعها له إلى من يرغب في شرائها نقداً وقد يكون المشتري النهائي للسلعة هو البائع الأول الذي اشتريت منه.
وعلى هذا النحو يقوم المصرف / المؤسسة المالية بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة "ليست من الذهب أو الفضة" من أسواق السلع العالمية أو غيرها على المستورق بثمن آجل على أن يلتزم المصرف / المؤسسة المالية - إما بشرط في العقد في الغالب الأعم أو بحكم العادة - بأن ينوب عنه في بيعها على مشتري آخر نقداً أي بثمن عاجل حاضر وتسليم ثمنها للمستورق مع تحمل المستورق كافة فروق الأسعار التي قد تطرأ على قيمة التكلفة تبعاً لظروف السوق.
سادساً : موقف المجامع الفقهية والفقهاء المعاصرين من التورّق :
( أ ) قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ([13]) في حكم بيع التورق :
بعد التداول والمناقشة والرجوع إلى الأدلة والقواعد الشرعية وكلام العلماء في هذه المسألة قرر المجلس ما يأتي :
أولاً : إن بيع التورق هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجل ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع للحصول على النقد (الورق).
ثانياً : إن بيع التورق هذا جائز شرعاً وبه قال جمهور العلماء لأن الأصل في البيوع الإباحة لقول الله تعالى : (وأحل الله البيع وحرم الربا) ولم يظهر في هذا البيع ربا لا قصداً ولا صورة ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين أو زواج أو غيرهما.
ثالثاً : جواز هذا البيع مشروط بأن لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول، لا مباشرة ولا بالواسطة، فإن فَعلَ فقد وقعا في بيع العينة المحرم شرعاً لاشتماله على حيلة الربا فصار عقداً محرماً.
وعلى هذا النحو فإن الضوابط الشرعية في بيع التورق الجائز هي :
1- أن تكون السلعة في حوزة البائع وملكه عند شراء المستورق لها بثمن مؤجل أو مقسط.
2- أن يبيع المتورق السلعة التي اشتراها فعلاً مباشرة أو بالواسطة لغير البائع له بنقد أقل أي ثمن عاجل أقل مما دفعه نسيئة.
3- أن لا يظهر في هذا البيع رباً لا قصداً ولا صورة بمعنى ألا يكون حيلة على الربا.
4- أن تكون للمتورِق حاجة داعية إلى ذلك البيع كقضاء دين أو زواج أو غيرهما.
(ب) ندوة البركة المصرفية والثالثة والعشرين في مكة المكرمة ([14]):
انتهت تلك الندوة إلى أنه :
"ينبغي النظر إلى صيغة التورق على أنها ليست صيغة استثمار أو تمويل وإنما هي وسيلة لحل مشكلة سيولة تتعرض لها المؤسسات أو بعض الأفراد لا يمكن حلّها بالسّلم أو الاستصناع ونحوهما من الصيغ التمويلية فلا يسوغ التحويل عليها بما يحجب صيغ الاستثمار والتمويل الأخرى ولا يلجأ إليها إلا استثناء للضرورة أو للحاجة الملحة التي تقدرها الهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية مثل :
حالات تحول البنك التقليدي إلى بنك إسلامي لمعالجة قروض العملاء قبل التحول، أو لاستنقاذ بعض عملاء البنوك التقليدية لسداد قروضهم منها والتعامل مع المصارف الإسلامية، أو لحماية عميل المؤسسة المالية الإسلامية من اللجوء إلى البنوك التقليدية لتمويل بعض أوجه نشاطه التي يتعذر تمويلها بصيغة أخرى.