النظام الأخلاقي الإسلامي ودوره في التنمية
د. محسن عبدالحميد
المصدر: كتاب "الإسلام والتنمية الاجتماعية"
إذا استقرأ الباحث المنصف أحوال الإنسان العقلية والنفسية والاجتماعية، تبين له أنه ثنائي التكوين، له جانبه التكويني المادي الغريزي الذي يشدُّه إلى عالم الحيوان، وجانبه المعنوي الرحماني الذي يذكره بخالقه، وبعنصر الخير والمعاني الفطرية السامية فيه، وهذان الجانبان في صراع دائم، الواحد فيهما يبغي الغلبة على الآخر، فإما أن يتغلب الجانب المادي فتسيطر على الإنسان الغرائز، وتقربه من عالم الحيوان؛ وإما أن يتغلب الجانب الروحي المعنوي فيبعده عن الحياة، ويسلمه إلى عالم الرهبنة، ومحاولة قتل الغرائز المركوزة في طبعه، ولا شكَّ أنَّ غلبة أي من الجانبين إخراج للإنسان من فطرته، وإدخال للاضطراب في حياته.
وفي سبيل مُحافظة الإنسان على إنسانيته دون إفراط أو تفريط يحتاج إلى نظام أخلاقي متزن يستطيع أن يدخل الاتِّزان عليه، ويبقيه في دائرة فطرته السليمة، ويقطع عليه طريق الميل إلى أحد الجانبين؛ الحيواني أو الرُّوحاني؛ كي يستطيع أداء حق الخلافة على الأرض، وينفذ هذه الأمانة الضخمة التي كلِّف بها.
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}[1].
والإسلام الذي جاء خاتمًا للأديان، شاملاً لتوجيه حركة الإنسان، يتدخل لضبط حركة التوازن بين ذينك الجانبين فيه عن طريق نظامه الأخلاقي المثالي؛ لأنه يريد أن يرفع الإنسان إلى مستوى فطرته الإنسانية النظيفة المعتدلة والواقعي؛ لأنه لا يتجاهل طبيعة ومسارات غرائزه التي أودعها الله تعالى فيه، أي إنه لا يريد قتل الغرائز؛ بل يخطط لتوجيهها وتهذيبها؛ حتى تؤدي عملها في الحياة؛ من أجل جعل المجتمع الإنساني مجتمعًا متوازنًا لا يميل إلى التطرف في جانب من جوانب الحياة.
إن عدم وجود هذا النظام الأخلاقي الضابط في المجتمع يقوده إلى الظلم الذي يمنع أن تسير الغرائز الإنسانية في مساراتها الصحيحة فتتصادم، فيأكل القوي الضعيف، ولا تتحقق العدالة، وتختل الموازين، ولا توضع الأشياء في مواقعها الصحيحة، فينهار نظام المجتمع من منطلق سنة الهلاك، قال تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}[2]، قال تعالى: {وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا}[3].
وإذا أخذنا مثلاً واحدًا من بين مئات الأمثلة على سلوك المجتمع الظالم، وهو "الرشوة" لتبيَّن لنا صدق تلك الألسنة الإلهيَّة الَّتِي لا تتخلَّف، فالمجتمع الذي تنتشر فيه الرِّشوة تنهار أسس العدالة فيه، فيظلم المرتشي نفسه وغيره ونظام مجتمعه.
أما نفسه فتذل وتفقد الكرامة والإحساس بقيم العدالة، وأما غيره فيلحق به الضرر، ويحول حقه إلى الآخرين، وأمَّا نظام المجتمع، فبتصرُّفه ذلك يدق إسفين عدم الثقة بالنظام الرابط لوحدة المجتمع.
إنَّ النِّظام الأخلاقيَّ الإسلاميَّ الذي يحقق هدف التوازن في كيان الفرد والمجتمع، يمتاز بميزتين أساسيتين[4].
أولاهُما: أنَّه نِظامٌ شامل شُمول الحياة؛ ونعني بذلك أنَّ دائرة الأخلاق الإسلامية واسعة جدًّا، فهي تشمل أفعال الإنسان الخاصَّة جَميعًا، أوِ المتعلِّقة بغيره، سواء أكان هذا الغير فردًا أو جماعة أو دولة.
وعلاقات الدول مع بعضِها تدخل في هذا الإطار، ومن المعلوم أنَّ الحياةَ كُلَّها مظاهرُ لذلك التَّعامُلِ الشَّامل.
ثانيهما: أنَّ الأخلاق ليستْ نِسبية في الإسلام؛ وإنَّما هي تنبع من حقائق خالدة تستند إلى الوحي الإلهي، وهذه النظرة قائمة أساسًا على نظرة الإسلام التعادلية إلى الوجود، فمذهبية الإسلام في الوجود كله تقوم على أساس الترابط والتوازن، ولا تقوم على مبدأ النقيض الذي يفترض عدم وجود الحقائق الثابتة، ويَنبنِي على ذلك مبدأ نسبية الأخلاق في الحياة البشرية[5].
وقوله تعالى: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ}[6] دليل على ما نقول، ونزيد على ذلك أن علم الفيزياء الحديث يثبت عدم وجود التناقض في تركيب الذَّرَّة، وبالتالي في بنية الوجود[7].
إن الإسلام يريد أن يوصل الإنسان إلى حالة الاستقامة في السلوك، وهو التوازن الكامل بين طرفي التكوين الإنساني، كي لا ينجرف الإنسان وراء غرائزه فيكون عبدًا لها، فتوجهه إلى الدرك الأسفل من الحياة الهابطة الحيوانية، التي تخرجه من الفطرة السليمة.
وقد امتدح الله تعالى هذه الاستقامة، وجعلها درجة عالية في السلوك الإنساني يستحق عليها صاحبها الدرجة الأوفى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}[8].
ولن تتحقق الاستقامة المطلوبة هذه إلا بالإيمان الصادق بالله تعالى، وإطاعته والاستسلام المطلق إلى أوامره، والانتهاء عن نواهيه.
وهذا لن يتم في صورته الصحيحة إلا بالتقوى التي هي فضيلة أراد بها القرآن الكريم إحكام ما بين الإنسان والخلق، وإحكام ما بين الإنسان وخالقه، والمراد بها أن تقي الإنسان مما يغضب به ربه، وما فيه ضرر لنفسه أو ضرر لغيره، والاستقامة والتقوى يأتيان عن طريق تزكية النفس، وترويضها على الفضائل، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}[9]، وتزكية النفس وتطهيرها، وضع لها الإسلام نظام العبادة من صلاة، وصوم، وحج، وزكاة، وقراءة قرآن، ودعاء مستمر يمثل التجاء العبد لخالقه العظيم، وطلب الهداية منه في كل حين.
ولا نبالغ إذا قلنا: إن القانون الأخلاقي الذي يحدد قيم السلوك، والحياة في الإسلام، لا يتحقق على الوجه المطلوب إلا إذا وجهه النظام العبادي فيه، ذلك النظام الذي يتكفل بصياغة الإنسان صياغة ربانية عالية، يتمسك بالكمالات ويترفع عن الصغائر، ولا يقترب من سفاسف الأمور.
وهذه المُهِمَّة من أخصِّ مُهِمَّات الدين عبر التاريخ، لا سيما الإسلام الذي أكمل الله تعالى به الدين والرسالات السماوية، ولذلك فإن العقلانية المادية التي نراها في الحضارة الحاضرة عجزت عن إيجاد نظام أخلاقي؛ لأنها قامت على أساس إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، ومنكر وجود الله لا يلتزم لا بالقانون الأخلاقي، ولا بالنظام العبادي؛ بل يؤمن بالمصلحة ويسير على نظرية الغاية تسوغ الوسيلة.
إنَّ علم الاجتماع المبني على المادية الصرفة في الغرب لم يستطع أن ينشئ نظام للأخلاق، لأن مهمته الأساس هي وصف الظواهر الاجتماعية وتعليلها.
ومن هذا المنطلق المهم تبرز الحاجة الماسة إلى التربية الدينية في مجتمعات تلك الحضارة، والتربية الإسلامية المتكاملة والمتوازنة في مجتمعاتنا، حتى يتربى أجيالنا على الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والقيم المنبثقة من نوره الذي أشرقت له السموات والأرض، إن النظام التربوي الأخلاقي الإسلامي يستطيع القيام بهذه المهمة إذا أحسنا فهمه واستيعابه، وعرفنا كيف نطبقه في حياتنا الفردية والاجتماعية تطبيقات سليمًا في إطار ضوابط الفهم الأصولي.
إن الجهود الفردية والمواعظ المنثورة هنا وهناك لا تكفي، إلا إذا قامت الدولة بواجبها الأخلاقي في تربية الأمة على الأخلاق الفاضلة.
إن الدولة تمثل في كل زمان قمة المؤسسات التي تجسد الوجود الاجتماعي الإنساني في مراحل تطوره ورقيه، إذ إن فيها تظهر المواهب، وتنمو الطاقات، وتتضح الخطط، وتتوزع المسؤوليات، فيتقدم الفكر الإنساني، وتتحسن وسائل الإنتاج عن طريق المجهود الجماعي الذي تنظمه وتوجهه أجهزة الدولة المتنوعة، وفيها يتحرك هذا المخلوق المميز المكلف بعقله وغرائزه، ويؤدي دوره المهم في بناء الحضارة، وضمان استمرارها في المستقبل لخدمة الأجيال الآتية.
إن أهمية الدولة في المجتمع تأتي من أنها تمثل القوة التي لا بديل عنها لإسناد الحقوق، ورد المظالم، وتحقيق قدر أوفى من السعادة والأمن والسلام لبني الإنسان.
ومن هنا انعقد إجماع علماء النفس والاجتماع والفلاسفة - سوى حفنة من الفوضويين - على أنَّ الدولة ضرورة جدًّا لتمييز مجتمع الإنسان عن مجتمعات المخلوقات الأخرى، طالما أن الحق لا يمكن أن يتغلب على الباطل دون الاعتماد على القوة الرادعة، وطالما أن النفس الإنسانية ليست مجبولة على الخير المحض أو الشر المحض، فتغلب أحد الجانبين منوط بالتربية الفردية والاجتماعية، وذلك بإيجاد الجو المناسب الذي يَمنع انتشار الفساد، ويَحفظ الاتِّزان الخلقي من الضياع، ويَمنع جرثومة الغرائز الحيوانية غير المهذبة من التسلل إلى الناس الأسوياء.