خامساً : واجب استثمار المال في ذاته شرعاً وما يتطلبه من نموذج أمثل للمصارف.
(أ) الحكم التكليفي للاستثمار:
معنى الاستثمار لابد من أن ينطلق من مقصد حفظ المال في الشريعة الإسلامية وحفظ المال يعني ناحيتين :-
1) من ناحية العدم بعدم التأثير عليه سلباً بالإتلاف والضياع والإهلاك، بما يعني ضرورة بقائه.
2) ومن ناحية الوجود بتنميته وزيادته ونموه أي تثميره.
3) وهذا وذاك بما يعني حفظ المال ومن ثم العمل على استثماره، ولكن في إطار هذا الاستثمار تتعدد الأدوات والوسائل والصيغ والسبل من بيع إلى إجارة إلى تجارة وجماع ذلك التجارة بما يعنيه من تقليب المال بالبيع والشراء : وتقليب المال يعني كل وسيلة تؤدي إلى تحريكه ولو في ذاته دون زيادة.
وهنا يمكن أن تدخل جميع الصيغ التمويلية والاستثمارية دون استثناء، أما تقليبه بالبيع وهو يتضمن الشراء أيضاً فيشتمل على كل صور البيع: من البيع المطلق إلى بيع التولية إلى الوضعية إلى المساومة إلى المرابحة إلى السلم إلى الإستصناع إلى الإجارة إلى الاشتراك.
فالأصل الوجوب في استثمار المال في ذاته : ولكن الصيغ والأدوات المستخدمة ففيها الإباحة والندب حسب الظروف والأحوال والبيئات والأزمان والأعراف والعادات.
فالاستثمار أصل لما سواه من الصيغ والأدوات الاستثمارية من البيع والتجارة والإجارة أي المعاملات، فإذا كانت المعاملات لم يقل أحد من الفقهاء بوجوبها كأدوات كل أداة على حدة فقد يكون الاستثمار تخييراً في البيع أو التجارة أو الإجارة ولكن الأصل مأمور به وواجب حيث هو تنمية المال أصلاً وجوباً بأي أداة كانت على التخيير.
وإليك طائفة من أقوال الأئمة في هذا الشأن:
(1) يقول الإمام الآمدي في الإحكام(1):
وأما بالنظر إلى المال فلهذا المعنى أيضاً فإنه لم يكن بقاؤه مطلوباً لعينه وذاته بل لأجل بقاء النفس مرفّهة منعمّة حتى تأتي بوظائف التكاليف وأعباء العبادات.
" وما لا يتم الواجب به فهو واجب ".
ويقول :
- الواجب على العين والواجب على الكفاية لا فرق بينهما من الوجوب لشمول حد الواجب لهما.
- الواجب المخيّر يتعين بفعل المكلف وقيل بوجوب الجميع على التخيير.
- والواجب ما لا يجوز تركة مع القدرة عليه.
- المندوب : فعله خير من تركه، مما يمدح فاعلة ولا يذم تاركه.
فالواجب أن يقال " هو المطلوب فعله شرعاً "
(2) ويقول أبوجعفر الدمشقي في الإشارة إلى محاسن التجارة (1) :
لا مال لأخرق، وإن حق المال الإنفاق ما يرجو صاحبه من سرعة الخلف في إنفاقه.
(3) ويقول محمد بن الحسن الشيباني (2):
المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله من أهل السنة والجماعة أن الكسب بقدر ما لا بد منه فريضة.
(4) ويقول أبوبكر الخلال في الحث على التجارة والصناعة والعمل (3):
كما قائل القائل:
- " إلزم السوق تصل به الرحم وتعود به على عيالك ".
- إلزم سوقك فإن فيه غني عن ا لناس وصلاحاً في الدين.
- كان اسحاق بن يسار يمر بالبزازين فيقول:
الزموا تجارتكم فإن أباكم إبراهيم عليه السلام كان بزازاً (4)
- وفي حديثه صلى الله عليه وسلم:
" لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عاله يتكففون الناس(5).
- قال سفيان الثوري " المال في هذا الزمان سلاح "(6).
وقال : كان المال فيما مضى يُكره فأما اليوم فهو ترس المؤمن.
- ويقول الله تعالى :
" فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون "(7)
وقال الإمام محمد بن الحسن في الحث على التجارة (
أخبرنا أبو بكر المروزي قال : سمعت أبا جعفر الخراساني حدثنا أبو صالح قال : سمعت يوسف بن أسباط يقول " لشعيب بن حرب : أشعرت أن طلب الحلال فريضة : قال نعم ".
( وابتغوا من فضل الله ) فلابد من طلب المعيشة (1).
( فابتغوا عند الله الرزق ) العنكبوت/17.
- كان أسود بن سالم يقول " اشتر وبع ولو برأس المال ".
- والآيات كثيرة في إقامة أمر الدين بالجهاد وعمارة الأرض وذلك لا يكون إلا بالمال ثم هو كذلك عون للمرء على دينه فيتصدق ويتعبد (2).
- عن سعيد بن المسيب قال : لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه ويصون به عرضه ويقضي به زمانه وإن مات تركه ميراثاً لمن بعده ".
- وفي قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " قال مجاهد من التجارة (3).
- عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها " (4)
(5) يقول الإمام الشاطبي في الموافقات(5):
تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
(أ) ضرورية (ب) وحاجية (ج) وتحسينية
فأما الضرورية : فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، والحفظ لها يكون بأمرين :
(أ) مراعاتها من جانب الوجود.
(ب) مراعاتها من جانب العدم.
والعادات : راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضاً كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك.
والمعاملات : راجعة – ( أي بالمقدار الذي يتوقف عليه حفظ النفس والمال فهي بهذا المقدار من الضروري وهذا هو الذي عناه الآمدي بجعل المعاملات من الضروري، أما مطلق البيع
مثلاً فليس من الضروري بل من الحاجي خلافاً لإمام الحرمين ) – إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضاً لكن بواسطة العادات.
- والمعاملات ما كان راجعاً إلى مصلحة إنسان مع غيرة كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الإبضاع.
- ومجموع الضروريات خمسة، فهي أصول الدين وقواعد الشريعة وكلّيات الله.
ويقول الشاطبي رحمه الله فأصل البيع ضروري ومنع الغرر والجهالة مكمل فلو اشترط نفي الغرر جملة لا نحسم باب البيع ؛ وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجيه واشترط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات، ولما كان ذلك ممكناً في بيع الأعيان من غير عسر منع من بيع المعدوم إلا في السلم.
وقد تقرر في كتاب الأحكام أن المندوب إليه بجزء ينتهض أن يصير واجباً بالكل (1)، فإذا ثبتت قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات فلا ترفعها آحاد الجزئيات .. فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع.