الأزمة المالية العالمية وتأثيرها على الاقتصاد العربي 2"سبب حدوث أزمة الرهن العقاري توسع المؤسسات المالية الأميركية في منح القروض السكنية بصورة لم يسبق لها مثيل من ناحية وزيادة نسبة القروض إلى قيمة الممتلكات (المساكن) من ناحية أخرى، وقد قدمت المؤسسات المالية تلك القروض لعدد كبير من المستهلكين أصحاب الملاءة الضعيفة أو الجدارة الائتمانية الرديئة".
سبب حدوث الأزمةتوسعت المؤسسات المالية الأميركية في منح القروض السكنية بصورة لم يسبق لها مثيل من ناحية، وازدادت نسبة القروض إلى قيمة الممتلكات (المساكن) من ناحية أخرى. وقد قدمت المؤسسات المالية تلك القروض لعدد كبير من المستهلكين أصحاب الملاءة الضعيفة أو الجدارة الائتمانية الرديئة، بمعني أن رغبتهم وقدرتهم على سداد القروض متدنية وبالتالي يتعثرون عند حلول مواعيد سداد القروض، مما يؤثر على وضع المؤسسات المالية التي منحت القروض، ومن ثم عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها وانهيارها.
هناك خاصية معينة تتميز بها المؤسسات المالية والمصرفية وهي درجة التشابك الكبيرة بينها وخصوصا بعد استحداث الأدوات المالية الجديدة في المجال المالي بصفة عامة وفي مجال التمويل العقاري بصفة خاصة والذي انتشر في التسنيد أو التوريق بصورة كبيرة وذلك من خلال تحويل القروض السكنية إلى سندات مدعومة بتلك القروض مما يؤدي إلى تشابك المؤسسات المالية، وبالتالي فإن تعرض إحداهما للانهيار أو الإفلاس يؤدي إلى تعثر وانهيار مؤسسات مالية أخرى.
من ناحية أخرى، هناك خاصية أخرى يتميز بها القطاع المالي وهي أنه عند إفلاس أو انهيار مؤسسة مالية بسبب وضعها السيئ فإن الذعر يصيب المودعين في المؤسسات المالية الأخرى، التي يكون الوضع المالي لمعظمها جيدا، ومن ثم يلجؤون إلى سحب ودائعهم.
وبالتالي فإن سحب الودائع بصورة مفاجئة يؤدي إلى انهيار تلك المؤسسات المالية حتى لو كان وضعها جيدا وسليما. وهذا الأمر يطلق عليه أثر الدومينو بحيث لو انهارت ورقة واحدة من أوراق لعبة الدومينو انهارت باقي الأوراق، لذا نجد أن تدخل البنوك المركزية في هذه الحالات يعتبر أمرا ضروريا.
تطورات الأزمة واضطراب الأسواق
تطورت أزمة الأسواق المالية التي تفجرت في أغسطس/آب 2007 حتى أصبحت أكبر صدمة مالية منذ الكساد الكبير، ملحقة الضرر البالغ بالأسواق والمؤسسات الأساسية في النظام المالي.
وقد بدأ الاضطراب بسبب الارتفاع السريع المستمر في حالات التعثر عن السداد في سوق الرهون العقارية العالية المخاطر في سياق عملية تصحيح رئيسية تشهدها سوق المساكن في أميركا وما أعقبها من ارتفاع حاد في فروق العائد على الأوراق المالية المضمونة بتلك الرهون العقارية بما في ذلك التزامات الدين المضمونة بأصول على نحو يجتذب مراتب ائتمانية مرتفعة.
غير أن التداعيات اللاحقة سرعان ما امتدت من خلال نظام مالي شديد الاعتماد على الرفع المالي لتسبب في خفض السيولة في سوق المعاملات بين البنوك وإضعاف كفاية رأس المال وفرض تسوية طارئة لأوضاع مؤسسات وساطة مالية كبرى وإحداث اضطراب عميق في أسواق الائتمان والحث على إعادة تسعير المخاطر في مجموعة كبيرة من الأدوات المالية المختلفة.
ومن أكثر الأمور حدة في هذه الأزمة حدوث خسارة لم يسبق لها مثيل في السيولة، حيث قفزت أسعار الفائدة على المعاملات بين البنوك لأجل ثلاثة أشهر بما يتجاوز بكثير أسعار الفائدة على الإقراض لليلة واحدة والمستخدمة كأداة للسياسة النقدية، وحدث هذا في وقت سعت فيه البنوك إلى الحفاظ على ما لديها من سيولة أمام الضغوط الواقعة عليها، وبسبب الزيادة المستمرة في عدم اليقين المحيط بمدى قدرتها المالية وتوزيع خسائر البنوك من حيازات الأوراق المالية المرتبطة بالرهون العقارية العالية المخاطر وغيرها من أشكال الائتمان.
وانتشرت حالات نقص السيولة بصورة أوسع نطاقا حيث لجأت البنوك إلى تخفيض خطوط الائتمان وزيادة هوامش الضمان للأوراق المالية وزيادة طلبات إيداع هامش الوقاية من الوسطاء الماليين الآخرين.
تحركات البنوك المركزية
وقد اتخذت البنوك المركزية الرئيسية تحركات قوية لمعالجة خسائر السيولة عن طريق تسهيل الوصول -على نطاق واسع- إلى التمويل القصير الأجل باستخدام التسهيلات القائمة، ولكن ذلك لم يحقق إلا نجاحا أوليا جزئيا. ونظرا لأن علاوات السيولة ظلت عند مستويات عالية قام البنك المركزي الأوروبي في ديسمبر/كانون الأول 2007 بتوسيع جديد في نطاق عملياته، وقام مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي وبنك إنجلترا (المركزي) بتوسيع كبير في نطاق الضمانات الإضافية المقبولة ونطاق المقترضين المسموح لهم بالوصول إلى أموال البنك المركزي.
وأعلنت البنوك المركزية الرئيسية مبادرة منسقة ترمي إلى ضمان السيولة الملائمة بما في ذلك توفير خطوط المبادلات من قبل مجلس الاحتياطي الفدرالي للسماح للبنوك المركزية الأوروبية بتوسيع نطاق سيولة الدولار.
وقد اتخذ مجلس الاحتياطي الفدرالي إجراءات جديدة في مارس/آذار 2008 بما في ذلك فتح نافذة خصم فعلية أمام المضاربين ذوي الجدارة الائتمانية العالية، وقام عدد من البنوك المركزية أيضا بتخفيف مواقف السياسات النقدية تحت تأثير الزيادة المستمرة في مخاطر النتائج دون المتوقعة المحيطة بالآفاق المستقبلية للنمو في هذه الفترة. وكان أكثر تلك المبادرات حدة قيام مجلس الاحتياطي الفدرالي منذ أغسطس/آب 2007 بتخفيض سعر الفائدة على الأموال الفدرالية، بينما قام بنك كندا المركزي وبنك إنجلترا المركزي أيضا بتخفيض أسعار الفائدة المستخدمة كأداة للسياسة النقدية، وتنازل البنك المركزي الأوربي وبنك اليابان المركزي عن إحداث زيادات جديدة في أسعار الفائدة.
وفي بريطانيا، وفرت السلطات أيضا ضمانا كاملا للودائع كي تساعد على استرداد ثقة المودعين بعد انهيار واحدة من كبرى المؤسسات العاملة في تقديم القروض العقارية ولا تزال علاوات الأجل أعلى بكثير من المعتاد رغم مضي سبعة أشهر على اندلاع حالة الاضطراب.
"يرجع استمرار مشكلات السيولة بالبنوك في جانب كبير منه إلى المخاوف المتزايدة من مخاطر الائتمان"
ويرجع استمرار مشكلات السيولة في جانب كبير منه إلى المخاوف المتزايدة من مخاطر الائتمان. فقد استمر اتساع فروق العائد على الائتمان في الأشهر الأخيرة وذلك وسط تزايد الوجوم المحيط بالآفاق المستقبلية، وكذلك تصاعد المخاوف بشأن مدى سلامة المنتجات المالية ومدى سلامة أوضاع أدوات الاستثمار بوجه عام.
ومع استمرار التدهور في أوضاع سوق المساكن في الولايات المتحدة وخصوصا في شريحة سوق الرهون العقارية العالية المخاطر، استمر الهبوط في أسعار الأوراق المالية المرتبطة بالرهون العقارية، وفضلا عن ذلك، ارتفعت فروق العائد في شرائح السوق الأخرى ذات الصلة ارتفاعا حادا، بما في ذلك الأوراق المالية المضمونة ببطاقات الائتمان وقروض السيارات وقروض الطلبة والرهون العقارية التجارية المضمونة، وذلك نتيجة المخاوف من التزايد المستمر في معدلات عدم السداد والرفع المالي المفرط وأساليب التوريق المشكوك فيها.
في هذا السياق تضاعفت المخاوف حيث لم تحقق البنوك سوى نجاح جزئي في الحفاظ على رأس المال في مواجهة الخسائر المتصاعدة، إذ تم بيع أحد بنوك الاستثمار الرئيسية في الولايات المتحدة على أساس طارئ بدعم من مجلس الاحتياطي الفدرالي.
وفضلا على ذلك واجه عدد من صناديق التحوط وغيرها من المؤسسات المرفوعة ماليا بدرجة كبيرة صعوبات خطيرة عندما قامت البنوك بزيادة طلبات إيداع هامش الوقاية على ما توفره من خطوط الائتمان مما آثار خطر عمليات البيع الاضطراري للأصول.
وفي الوقت ذاته يبرز التساؤل الآن وهو مدى سلامة أوضاع سوق مبادلات مخاطر الائتمان وخاصة إزاء الضعف المستمر في المراكز المالية لشركات التأمين التي توفر غطاء لمخاطر الائتمان.
وقد تراجعت أسعار الأسهم أيضا، خصوصا في أوائل عام 2008، عندما ازدادت دلائل الضعف الاقتصادي وتعرضت أرصدة القطاع المالي لأشد الأضرار وظلت مقاييس التقلب في أوراق الأسهم والعملة على مستوياتها المرتفعة. وعلى العكس من ذلك هبطت أسعار الفائدة على السندات الحكومية بدرجة كبيرة، بينما زاد الاستثمار في أسواق السلع الأساسية بدرجة غير مسبوقة، حيث يسعى المستثمرون إلى حيازة أصول بديلة أقل خطرا.
انعكاسات الأزمة على الدول العربية
انعكست الأزمة المالية الأميركية على معظم اقتصاديات دول العالم حتى إنها أصبحت تلقب بالأزمة المالية العالمية. وبما أن الدول العربية جزء من منظومة الاقتصاد العالمي فإنها سوف تتأثر سلبا بهذه الأزمة، بل في واقع الأمر قد تأثرت بالفعل. ومدى تأثر الدول العربية يعتمد على حجم العلاقات الاقتصادية المالية بين الدول العربية والعالم الخارجي.
في هذا الإطار يمكننا تقسيم الدول العربية إلى ثلاث مجموعات من حيث مدى تأثرها بالأزمة، وهي:
المجموعة الأولى: هي الدول العربية ذات درجة الانفتاح الاقتصادي والمالي المرتفعة وتشمل دول مجلس التعاون الخليجي العربية.
المجموعة الثانية: وهي الدول العربية ذات درجة الانفتاح المتوسطة أو وفق المتوسطة ومنها مصر والأردن وتونس.
المجموعة الثالثة: وهي الدول العربية ذات درجة الانفتاح المنخفضة ومنها السودان وليبيا.
بالنسبة للمجموعة الأولى فإن صادراتها تمثل نسبة كبيرة من الناتج المحلي، ويعتبر النفط هو المصدر الرئيسي للدخل الوطني. وقد لوحظ جراء تداعيات الأزمة انخفاض أسعار النفط من حوالي 150 دولارا للبرميل في شهر يوليو/تموز الماضي إلى حوالي 77 دولارا للبرميل حاليا، أي بانخفاض بنسبة 50%. ومما لا شك فيه أن هذا الانخفاض الحاد سيؤثر على وضع الموازنات العامة القادمة وعلى معدلات النمو الاقتصادي، إذ إن معدلات النمو في النصف الثاني من العام 2008 والعام 2009 ستنخفض مقارنة بمعدلات عام 2007 والنصف الأول من العام 2008.
من ناحية أخرى، يلاحظ أن النشاط المالي لدول الخليج في العالم الخارجي كبير، حيث تم استثمار جزء لا يستهان به من عوائد النفط، وحيث يلاحظ أن دول الخليج أصبحت تمتلك صناديق ثروات سيادية تستثمر في الخارج خصوصا في الولايات المتحدة وأوروبا.
"تشير بعض التقديرات إلى أن خسائر صناديق الثروات السيادية في الدول الناشئة بما فيها دول الخليج تقدر بحوالي 4 مليارات دولار وتقدر الاستثمارات العربية بالخارج بحوالي 2.4 تريليون دولار"
ومما لا شك فيه أن هناك بعض الصناديق التي يمكن أن تكون لها استثمارات في بعض المؤسسات المالية المتعثرة.
وتشير بعض التقديرات إلى أن خسائر صناديق الثروات السيادية في الدول الناشئة بما فيها دول الخليج تقدر بحوالي 4 مليارات دولار.
وتقدر الاستثمارات العربية بالخارج بحوالي 2.4 تريليون دولار، وكما هو معلوم فإن هذه الاستثمارات مملوكة للحكومات والأفراد ولكن معظمها يعود لدول الخليج وسوف تتأثر تلك الاستثمارات بحسب الجهة التي يتم الاستثمار فيها.
وكلما كانت تلك الجهة تتميز بدرجة عالية من المخاطر، فإن درجة التعرض إلى خسائر تكون أكبر، ومما لا شك فإن هناك بعض الخسائر ولكن غير معلن عنها.
أما بالنسبة للبورصات فإن حالة الخوف والفزع هي التي أصابت المستثمرين في العالم كله ابتداء من أميركا، حيث انهارت بورصة وول ستريت إلى بورصة إندونيسيا التي أغلقت أبوابها مرورا بالبورصات في معظم دول العالم ومنها إلى البورصات العربية وخصوصا الخليجية والمصرية.
أما بالنسبة لدول المجموعة الثانية فإن تأثرها بالأزمة سيكون أقل من دول المجموعة الأولى باستثناء تأثر البورصات فسيكون في مستوى تأثر بورصات المجموعة الأولى.
أما بالنسبة لدول المجموعة الثالثة، وهي ذات درجة الانفتاح الاقتصادي والمالي المحدودة، فسيكون التأثير عليها محدودا أيضا.
منقول للفائدة العامة