المطلب الثاني
الوقف وعلاقات التوزيع والإنتاج وسد الحاجات
أولاً: الوقف وعلاقات التوزيع
تشتمل فكرة التوزيع على تخصيص مكافأة نسبية من الثروة أو الدخل على عناصر الإنتاج المختلفة، ومن جانب آخر ترتبط فكرة التوزيع "بالتحويلات الاجتماعية"، أي إسهامات الأفراد في مدخلات الخير والبر والإحسان العام، في إطار مبادئ التكافل بين الأفراد في المجتمع الإسلامي.
والواقع أن دخل الفرد يصب في ثلاث قنوات رئيسة، هي: الإنفاق على النفس أي الإنفاق على الاستهلاك الشخصي، والإنفاق على الغير (التحويلات الاجتماعية الخاصة)، والإنفاق على مصالح الجماعة والخير العام (التحويلات الاجتماعية العامة) (52).
وأما سلوك الواقف فإنه يتم عن طريق تحرير جزء من دخله في قناة التحويلات الاجتماعية العامة. وبذلك يسهم نظام الوقف بنقل قوة شرائية (= خدمات) أي جزء من الدخل أو الثروة، من فئة اجتماعية إلى أخرى. أن الوقف على الخدمات العامة التي تستفيد منها الفئات المحتاجة أو الفقيرة، هو في ذاته تحويل عام للقوة الشرائية لصالح هذه الفئات.
ويدعم المنهج الإسلامي سلوك الواقف نحو توسيع دائرة المشاركة الاجتماعية، لأن ما يزيد عن حاجة الفرد من دخله المكتسب أو ثروته يجب أن يصرف للاستهلاك في إطار الأهداف الجماعية وتحقيق مصالح الخير العام. يقول الإمام الغزالي: "ولا خلاف في أن تفرقة المال في المباحث فضلاً على الصدقات أفضل من إمساكه"(53). وفي موضع آخر قول: "فإذن ترياق المال أخذ القوت منه وصرف الباقي إلى الخيرات وما عدا ذلك سموم وآفات"(54). ويعني ذلك أن التوزيع العاجل للدخل في مشروعات الوقف يحقق كفاءة عالية للمردود الاجتماعي والاقتصادي الذي تعم فائدته بسبب سرعة تدوير الثروة والدخل وانتفاع الناس به.
هذا، وإن معيار توزيع الأعيان الموقوفة ينبع من فكرة الإحسان وواقع الخير والبر والذي تضمنته فكرة "الصدقة الجارية"، وبدون شك فإن ضوابط المنهج الإسلامي المتضمنة ضرورة الاعتدال والرفق في الإنفاق والنهي في تضييقه أو توسيعه (التقتير = التبذير)، من شأنه أن يحد من مستويات الطلب الاستهلاكي، ويصحح قرارات الإنفاق الفردية ويساعد في حفظ التوازن لقوى السوق وحماية علاقات التوزيع من الاختلالات وتقلبات الأسعار. وثمة إشارة جوهرية في سياق الحديث عن علاقة الوقف بالتوزيع، وهو أن ثروة الواقف أو دخله ينبغي النظر إليه على أنه معادل لمجموع قيم الإنفاق على الاستهلاك والادخار، وهو المتحقق فعلياً في ظل تطبيق المنهج الإسلامي، أي أنه لا وجود للضرائب بصيغتها المعاصرة (الخراج، الضرائب)، ويسهم ذلك بضمان فرصة حقيقية للواقف لتفعيل قدرته على توجيه الإنفاق في ظل الفرضية الرأسمالية المعاصرة، وذلك أن الفرد في ظل هذه الفرضية يجب أن يخصص جزءاً من دخله للإنفاق على الضرائب الحكومية(55) ونتيجة لهذا فإن الإنفاق في المصالح الجماعية والذي يقوم به الواقف يضمن الاستفادة الكلية من الدخل المتاح على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة.
ثانياً: الوقف والإنتاج
يعرف الاقتصاد المعاصر الإنتاج: بأنه خلق منفعة أو إضافة منفعة جديدة. وأن هذه المنفعة المنتجة تتوافر بعدة صور وأشكال، منها: "الشكلية" المتضمنة لتغيير شكل المادة، والمنفعة "المكانية" المتضمنة لنقل المنفعة إلى مكان آخر، والمنفعة "الزمنية" والتي تتعلق بحجز المنفعة كما في عمليات التخزين، والمنفعة "التكميلية" التي يحصل عليها بطريق التبادل، ومنفعة "الخدمة"(56). ولكن يختلف التصور الإسلامي لمفهوم الإنتاج اختلافاً جوهرياً عن مفهوم الاقتصاد المعاصر، وينبغ ذلك من طبيعة فلسفة الإسلام لعملية الخلق والإيجاد وما يترتب عليها من آثار مختلفة تتعلق بأصول الشريعة.
ولذلك يرتبط مفهوم الإنتاج في الإسلام بفكرة "الإصلاح" وليس "الخلق"، ويمكن القول بأنه يشكل عملية "إصلاح" لرأس المال الإنتاجي من الآلات والأدوات الإنتاجية. إن الإصلاح يدل على أن المادة موجودة أصلاً خلافاً لأفكار المدرسة الطبيعية الني نسبت عملية الخلق والإيجاد للجهد المبذول من قبل الأفراد. وأيضاً فإن القول بخلق المنفعة غير جائز لأن عملية الخلق لا تتناسب عموماً مع قدرات البشر على الإيجاد والتصوير، ولذا يدل مفهوم "الإصلاح" على إضافة منفعة جديدة أو زيادة المنفعة الأصلية للسلع المنتجة. كما أن مفهوم الإنتاج المتضمن لفكرة "الإصلاح" يدل على المضمون الإيجابي للمنفعة، لأن "الإصلاح" نقيض الإفساد، الأمر الذي يحدد اتجاهات الإنتاج نحو اشتقاق المنفعة في باب الطيبات التي تدر نفعاً وخيراً وإشباعاً فعلياً وعدم إنتاج السلع الخبيثة أو التي تتضمن منفعة سلبية ضارة وغير مشروعة.
فسلوك الواقف هو سلوك إنتاجي للأعيان الموقوفة حيث يقع في جانب "الإصلاح"، وتبعاً لذلك يعدّ الواقف عضواً "مصلحاً" في المجتمع، ويتوافق ذلك مع قوله تعالى: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)(57)، وقوله تعالى: (إنا لا نضيع أجر المصلحين) (58)، وقوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم) (59)، فإصلاح الأرض (= عدم الإفساد) هو خير، والوقف في ذاته خير وصدقة جارية.
ويتفرع عن ذلك تعظيم الدور الاجتماعي الذي يقوم به الواقف بصفته "مصلح" على مستوى الإنتاج والاستهلاك معاً، فالواقف بصفته "مصلح" لا يبذل جهده أو يتنازل عن جزء من ثروته لقاء أرباح دنيوية عاجلة، ولكنه يحقق أرباحاً مضاعفة (ثواب أخروي) نتيجة تأكيد عضويته في المجتمع في إطار علاقات التكافل والتراحم، وفي جانب الاستهلاك تتحدد اتجاهات الطلب الاستهلاكي في نطاق الأذواق المقبولة شرعاً، مما يعني عدم وجود رغبات ودوافع استهلاكية في السوق تسعى للحصول على منافع سلبية محرمة أصلاً، ويتضح ذلك بصورة أوسع نتيجة تركز الوقف إلى حد ما في قطاع الموارد أو الأصول الثابتة (الأرض) مما يتيح الكثير من فرص الاستفادة بالموارد الطبيعية ومنافعها المتميزة.
ثالثاً: الوقف وسد الحاجات
يعدّ الوقف من أهم الأدوات الاقتصادية المساعدة التي شرعها الإسلام للمشاركة في ضمان الضروريات الأساسية، باعتبار أن هذه الضروريات غير مقصودة لذاتها، وإنما هي مقصودة لحفظ النوع الإنساني. وأهم هذه الضروريات التي يدعمها نظام الوقف هي: المطعم والملبس والمسكن، وقد اشتملت عليها الآية الكريمة: (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)(60) فالمطعم ما يطعمه الإنسان على قدر حاجته، والكسوة مما لا يستغني عنه من اللباس والثياب(61)، والمسكن الذي يكن الإنسان من الحر والبرد(62). يقول صاحب مغني المحتاج: "يجب دفع المسلمين ككسوة عار، وإطعام جائع، إذا لم تندفع بزكاة وبيت مال"(63).
وتحدد مشاركة الوقف في سد الحاجات أو الضروريات الأساسية الثلاث ضمن حدود الاعتدال من غير إفراط أو تفريط. فأما المطعم فلا يجوز للإنسان أن يستهلك فوق حاجته لأنه متعلق به حق الغير من المعوزين والفقراء(64). ولأن الإنسان يقصد بهذا الاستهلاك منفعة نفسه، إذ تنعدم هذه المنفعة فوق مستوى الشبع ويكون فيها مضرة (قانون تناقص المنفعة الحدية) (65).
وأما المسكن فالمراد منه دفع أذى الحر والبرد، فصار المسكن من هذا الوجه بمنزلة الطعام والشراب(66). وأما الملبس فهو مقصود لحماية النفس من الهلاك، وتلتقي بضرورة المطعم والمسكن على حد سواء.
إن سلوك الواقف بتخصيص جزء من الوقف على أية حاجة من الحاجات الاساسية يرتبط بمدى تحقق المنفعة أو تحصيل مستوى الإشباع اللازم لضمان استمرارية البقاء ثم موافقة الفرد للفرص المتاحة في سلم الارتقاء والكمال(67).
والواقع أن الإنفاق أو تخصيص الوقف على أهداف معيشية محددة ضمن نطاق ومستوى الحد الأدنى من الضروريات الأساسية يؤدي ابتداء إلى تحرير سلوك الفرد من سيطرة الأشياء المادية والتعلق بها، لأن غرض الإشباع في حدوده الدنيا من هذه الضروريات، غير مقصود لذاته، وإنما هو تلبية لاستعدادات الفرد العضوية، وتوازن حركته في الحياة مع أهدافه فيها، لأن اهتمام الفرد بالإشباع المفرط من الحاجات الأساسية فوق الحدود الطبيعية، يعكس حالة من التبرير غير المنطقي في فهم حقائق الحياة واستيعاب مقاصدها الفطرية.
إن مشاركة أنشطة الوقف في ضمان الحاجات الأساسية ضمن الحدود الطبيعية، يفرض حالة خاصة للمنهج الاقتصادي في الإسلام، مما يميزه عن النظام الرأسمالي الذي يقوم على تعظيم الاستهلاك، إذ أن الفرد في هذا النظام يركز على الإشباع الشخصي دون مراعاة الجوانب الجماعية، علاوة على فلسفته القائمة على تعظيم الأجر والفراغ وتفضيلها على العمل والإنتاج، إذ إن الفرد ينتهي دوره بمجرد اكتفائه في سد حاجاته الشخصية وتحقيق المنفعة الذاتية منه.
وأوضح أن مشاركة الوقف في إشباع الضروريات الأساسية تتسع ضمن وعاء اقتصادي يستوعب المزيد من الضروريات الأساسية مثل الحاجات الصحية وتتحقق عن طريق وقف المستشفيات والمراكز الصحية وتأمين العقاقير والأدوية، والحاجات العلمية (المعرفية)، عن طريق وقف المدارس ومساعدة الطلبة، حتى إنه يتسع للحاجات الأمنية، وهناك شواهد تاريخية ومعاصرة لإسهامات الوقف في هذه المجالات موجودة في مظانها.
رابعاً: الوقف والدورة الاقتصادية (التوزيع والإنتاج والحاجات الأساسية)
مما تقدم، يمكن استخلاص شكل وطبيعة أداء الدورة الاقتصادية للوقف حسب المتغيرات الاقتصادية التي تم توضيحها وهي علاقات التوزيع والإنتاج وسد الحاجات الأساسية.
طبيعة التدفق الإداري بين الوقف والثروة وقطاعات المجتمع الاستهلاكي، ويمكن بيان ذلك بإيجاز في النقاط التالية:
1. يتوزع سلوك الواقف بين وقف الأصول الرأسمالية (السلع المعمرة) وبين السلع الاستهلاكية غير المعمرة (سلع وخدمات).
2. تمر الأصول الرأسمالية (أدوات إنتاجية) بقناة الاستثمار، إذ يؤدي إلى تعويض ثروة المجتمع من جهة، وإلى زيادة ثروة وطاقة المجتمع الإنتاجية من جهة أخرى.
3. يواجه قطاع المجتمع الاستهلاكي خيارين، هما خيار الاستهلاك وخيار الاستثمار، وذلك من أجل مواصلة واستمراريته من جديد.
4. وواضح أن الاتجاه الاستهلاكي لقطاعات المجتمع يضغط للحد من التوسع في الطلب على الاستهلاك (= الاستهلاك في منطقة الضرورة)، وذلك من أجل تحرير بعض الموارد للإسهام في إنتاج السلع الاستهلاكية، ومن ثم تدويرها من أجل إنتاج السلع الرأسمالية.
ومن هنا يتضح كيف يعمل الوقف على تأمين جزء من رأس المال الإنتاجي، كما أنه يوفر مورداً استهلاكياً للحاجات الأساسية لأفراد المجتمع، مع مراعاته توفير الدورات الإنتاجية التي تشكل جزءاً من ثروة المجتمع. فهو يحاول إيجاد التوازن بين الاستهلاك والإنتاج عن طريق سياسة توزيعية من مكونات رأس المال الإنتاجي والاستهلاكي.