الجزء الثاني:
التحديات التي تواجه العمل المصرفي الإسلامي:
الجوانب التشغيلية
1. الهندسة المالية:
تشير عبارة "الهندسة المالية" إلى فن صياغة المدخلات المالية لتلبية حاجيات وميول مستخدمي الأموال فيما يخص المجازفة وفترة الاستحقاق والعائد. وقد أصبحت الأسواق المالية أكثر تعقيدا وتنافسا. ولاستغلال مناخ السوق الذى يتغير بسرعة ولمواجهة المنافسة المتزايدة تصبح الهندسة المالية والابتكار أمرا واجبا. وقد اقتصرت الأدوات المالية الإسلامية حتى الآن على الطرق التقليدية التى طورت منذ قرون مضت بغية تلبية حاجيات تلك المجتمعات. وقد تمثل هذه الطرق موجهات مفيدة للعقود الإسلامية المعاصرة إلا انه لا يوجد سبب للاقتصار عليها فقط
وفى ضوء مبادئ المصلحة والاستحسان فإن من المستحسن انتهاج "منهج الحاجة" بالنسبة للهندسة المالية ولكن في إطار مبادئ التمويل الإسلامي المعروفة
ليس مسموحا بيع أي شيء لا يملكه الإنسان. ولكن في حالة السلم أباح الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا البيع بسبب "حاجة" الناس ولكنه وضع أحكاما واضحة لحماية مصالح كلا الطرفين ولقد تغيرت الاحتياجات المالية للأفراد والأعمال التجارية على حد سواء. ووضع مهندسو التمويل الحديث وسائل جديدة مثل الرهون والخيارات والمشتقات و التحوُّط وبرامج تأمينات التقاعد والبطاقات الائتمانية ..... الخ. وبغية تلبية هذه الحاجات يجب علينا أن نبحث ماهية الحاجات التي تلبيها هذه الأدوات. فإذا كانت الحاجات صحيحة (من ناحية إسلامية) فإنه يجب علينا إما أن نكيفها حسب مقاصدنا أو نبتكر بدائل إسلامية لها
إن عملية التكيف معروفة جدا في الفقه الإسلامي ولم تتوقف أبدا. ولكن ينبغي تعزيز سرعتها . ولقد تم تعديل العقودات في عدد من الحالات لتلبية الحاجات الراهنة . ومن الأمثلة القوية قيام العمل المصرفي الإسلامي على أساس مبدأ المضارب يضارب والذي ينص على أن المضارب نفسه قد يعين وكيلا آخر لإدارة العمل التجاري. وثمة مثل آخر وهو ممارسة المرابحة حيث يشترى البنك سلعة بعد وعد من طرف آخر بشرائها من البنك بسعر أعلى
يسمح مبدأ المضارب يضارب بوجود عقد من الباطن. وإذا ما قبل المبدأ فليس هناك سبب لحصرها فقط فى المضاربة. ويمكن أيضا وضع عقودات على أساس مبادئ أخرى مثل المؤجر يؤجر و المستصنع يصنع ...الخ. وبمعنى آخر يمكن للمتعاقد الأصلي أن يرتب التزاماته بموجب العقد من خلال طرف الثالث
من الممكن تعديل العقود القائمة لتناسب الأوضاع الجديدة إلا أن تطوير عقودات جديدة يتيح مجالا واسعا للهندسة المالية. وقد تكون هذه العقودات هجينا من العقودات القديمة أو تكون جديدة تماما. إن المجال أمام الهندسة المالية والابتكارات فى مجالات أخرى واسع جدا. ومن المهم إسناد المهمة إلى خبراء يعرفون مقتضيات التجارة ودقائقها. وقد يكون العقد النهائي (اجسلم) أى دمج ما بين الإجارة والسلم ، أو حتى ناتج جديد.
2. انعدام التمويل عن طريق تقاسم الأرباح
تنقسم المعاملات المالية الإسلامية إلى نوعين. يقوم أحدهما على رسم ثابت على رأس المال ويستند الآخر إلى تقاسم الأرباح. ويوفر النوعان كلاهما التمويل من خلال شراء وبيع سلع حقيقية . بينما تقوم المعاملات المالية التقليدية على تسليف الأموال مقابل رسم ثابت (فائدة),
لقد علق المختصون الاقتصاديون الإسلاميون آمالهم على البنوك الإسلامية لتقديم قدر معتبر من التمويل عن طريق تقاسم الأرباح . وينتج عن هذا آثار اقتصادية مماثلة للاستثمار المباشر التى تحدث تأثيرا قويا على صعيد التنمية الاقتصادية. وقد طرح المنظرون بعض الحجج محبذين التمويل عن طريق تقاسم الأرباح على التمويل بواسطة عائد ثابت على رأس المال.
إلا انه فعليا ظل تمويل المشاركة فى الأرباح ضئيلا فى المعاملات الإسلامية؟ ويعزى ذلك إلى أسباب عديدة حسب منظور البنوك الإسلامية وعملائها . أما منظور منشآت الأعمال كمستخدمة للتمويل المصرفي فإن من الأهمية بمكان ملاحظة أنها تفضل العقود المالية ، والتى لا تفرض قيودا وتشجع إعادة استثمار الأرباح فى نمو الشركة. ولم يتم تكييف عقود المشاركة فى الأرباح مع متطلبات ورغبات هذه المنشآت باعتبارها منشآت مستمرة فى العمل. ومن منظور البنوك يبدو أن هنالك تكاليف اعلي ناجمة عن توظيف الأموال على أساس المشاركة فى الأرباح ، حيث إن اختيار المشروع المناسب لتمويله يتطلب دراسات جدوى وتقويما فنيا ماليا ، وعادة ما يتجاوز تكلفة هذه الجهود تكلفة إيداعات بعوائد ثابتة . بالإضافة إلى ذلك ، فإن ترتيبات المشاركة فى الأرباح تتطلب متابعة وتقديم دعم فني ، وأحيانا ، دعما ماليا إضافيا للمتعهدين . وفى جميع الحالات يجب أن يكون لمديري المشاريع نظام محاسبة جديد وان يخضعوا لمراجعة دقيقة.
3. عدم سيولة الموجودات
مشكلة أخرى يسببها انتشار صيغ التمويل القائمة على أساس الدين ، وهى صعوبة تحويل هذه الصيغ التمويلية إلى أدوات مالية يمكن التفاوض بشأنها . فمجرد إحداث الدين لا يمكن تحويله إلى أى شخص إلا بقيمته الاسمية. ويجعل ذلك هيكل السوق المالية الإسلامية غير قابل للتسييل بدرجة عالية.
ويمثل ذلك عقبة أساسية فى تطوير أسواق ثانوية فى الأدوات المالية الإسلامية. حيث انه ما لم تصبح الصيغ القائمة على الأسهم أكثر شعبية ، أو يتم تطوير أدوات أخرى قابلة للتداول ، فإن السوق المالية الإسلامية لن تتطور. وهنالك بعض المحاولات التى تبذل حاليا لتطوير أدوات قابلة للتفاوض على أساس الإجارة والسلم. إلا أنها لم تستخدم بدرجة تذكر حتى الآن. والأمل الكبير فى تطوير أسواق مالية إسلامية ، يكمن فى تطبيق أوسع لأدوات التمويل القائمة على الأسهم وتحقيق الأمن فى تطبيق الصيغ الحالية.
4. حشد الودائع وتوظيف الأموال محليا
كما ورد أعلاه حققت البنوك الإسلامية نجاحا كبيرا فى حشد الودائع فى الماضي إلا أن الأمر يتطلب المزيد من الجهود المضنية للحفاظ على معدل متوسط نسبيا للنمو فى المستقبل.كما يجب إدراك أن الكثير من الودائع لدى البنوك الإسلامية حاليا لم تأت بسبب جاذبية العوائد المرتفعة بل بسبب الالتزام الديني للعملاء ، فالكثير منهم كانوا يحفظون مدخراتهم فى بنوك تقليدية دون أخذ فوائد بينما كان كثيرون آخرون يحفظونها "تحت وسائدهم" ولمثل هؤلاء الأشخاص كانت العوائد المتواضعة أو حتى غياب العوائد من البنوك الإسلامية أمرا مقبولا ، أما الآن فمعظم هذه الأموال قد دخلت بالفعل خزائن البنوك الإسلامية.
وحيث أن البنوك و المؤسسات التقليدية تستخدم خبرتها الواسعة فى إنشاء أدوات مالية تتفق مع الصيغ الإسلامية ، فان المدخرين المسلمين سيسعون وراء بدائل لإيداع أموالهم فى البنوك الإسلامية بمعدلات عوائد منخفضة. إن المنافسة من المؤسسات الأخرى تظهر تدريجيا وقائع جديدة لصناعة البنوك الإسلامية.
وبينما حشدت البنوك وصناديق الاستثمار الإسلامية حتى الآن موارد مالية ضخمة ، فإن جزءا كبيرا من هذه الموارد قد ذهب إلى أسواق مالية غربية. كذلك فإن الشيء نفسه حدث للموارد التى تم حشدها لدى البنوك التقليدية. لم تتمكن أى مؤسسة مالية إسلامية (كما لم تتمكن المؤسسات المالية التقليدية فى البلاد الإسلامية) من نقل مدخرات من بلدان غربية إلى بلدان مسلمة بالرغم من الطلب الكبير على مثل هذه الموارد فى تلك البلدان ، ويمثل ذلك تحديا للبنوك الإسلامية تصحبه آثار مهمة على البلدان الإسلامية.
5. المنافسة
حتى الآن احتكرت البنوك الإسلامية بدرجة كبيرة الموارد المالية الخاصة بعملاء ذوى دوافع إسلامية . ولكن هذا الوضع يتغير بسرعة . حيث أن البنوك الإسلامية تواجه الآن زيادة مستمرة فى المنافسة . والتطور الهام الذى حدث فى النظام المصرفي الإسلامي فى السنوات القليلة هو دخول البنوك التقليدية فى هذا السوق . وبالرغم من أنه من الصعوبة بمكان تحديد عدد البنوك التقليدية فى أنحاء العالم التى تمارس النظام المصرفي الإسلامي ، فإنه حتى إعداد قائمة قصيرة عشوائية الاختيار قد يشمل بعض عمالقة البنوك الدولية مثل " تشيس مانهاتن ، وسيتى بنك ، وايه إن زد جرندلايز ، ولكين ورت بينسون ، وبنوك أخرى مثل يونيون بنك أوف سويزرلاند ، وجيروزنتال أو استراليا و الايه بى سى انترناشيونال. بالإضافة إلى هذه البنوك فإن العديد من البنوك التجارية فى الكثير من البلدان الإسلامية يقدم خدمات مصرفية إسلامية . فبنك مصر فى مصر والبنك الأهلي التجاري فى السعودية فتحا فروعا إسلامية ، وفى ماليزيا سمح للبنوك التجارية فتح نوافذ إسلامية.
بينما يمثل هذا التطور اعترافا بجدوى النظام المصرفي الإسلامي ، هل يبشر ذلك بمستقبل للنظام المصرفي الإسلامي ؟ والإجابة عن ذلك قد لا تكون سهلة جدا . فبشكل عام يفترض أن تكون المنافسة جيدة لنمو أى صناعة . فهي تجبر الشركات التى تفتقر للكفاءة على تطوير مستواها أو الخروج من سوق العمل المصرفي. وهى تخفض التكاليف وتحسن الخدمات للعملاء وهى تعزز الابتكار وتحسن جودة المنتجات.
6. العولمة
يتوقع أن تحدث زيادة أخرى فى منافسة البنوك التقليدية فى المستقبل القريب بسبب العولمة. ويراد بالعولمة زيادة الاعتماد الاقتصادي المتبادل للبلدان على نطاق عالمي من خلال تزايد حجم وتنوع المعاملات التى تتم عبر الحدود فى البضائع والخدمات والتدفق الدولي لرؤوس الأموال وكذلك من خلال الانتشار الأسرع للتكنولوجيا . ونظرا (لسياسة) التحرير فإن الأسواق العالمية تتقارب بسرعة للتلاقي فى سوق واحدة . ويتيح ذلك فرصا للبنوك الإسلامية بقدر ما يمثل تحديات لها . فمن ناحية ستتيح العولمة قدرا أكبر من تنوع المحفظة مما يقلل من المخاطرة فى صيغ المشاركة فى الأرباح . وسيفتح ذلك فرصا للبنوك الإسلامية فتح المزيد من الفروع فى البلدان غير الإسلامية . وفرص قيام البنوك الإسلامية بحشد المزيد من الإيداعات هى الأكبر فى هذا المجال ، خاصة بين المجموعات المسلمة فى هذه البلاد . ومن ناحية أخرى يتعين على البنوك الإسلامية أن تكون مستقرة للمزيد من المنافسة الشرسة من البنوك الأجنبية. وحتى تتمكن البنوك الإسلامية من الاستفادة من العولمة فهي بحاجة إلى تحسين نوعية خدماتها وتطوير مشاريع مناسبة . ومرة أخرى سيكون العملاء هم المستفيدون فى خاتمة المطاف.
وقد لعبت الابتكارات التكنولوجية دورا كبيرا ومهما فى التكامل المالي والعولمة ، فالمعاملات المصرفية الالكترونية واستخدام الكمبيوتر فى البنوك قد غيرا طريقة عمل البنوك.
ماذا يعنى كل ذلك للبنوك الإسلامية ؟ هل سيساعدها أم يعود عليها بالضرر ؟ قد يكون من الصعوبة بمكان الإجابة عن هذين السؤالين . ولكن قد لا يكون من الضروري ان نتوقع الاجابات :
1. إن البنوك الإسلامية أصغر من أن تستفيد من عملية العولمة أو حتى المشاركة فيها . حيث ليس بوسعها القيام بدور يذكر نظرا لصغر حجمها ، ويدعم هذا اقتراحنا الذى ذكرناه سابقا بوجوب تفكيرها فى عمليات الدمج أو على أقل تقدير إقامة مشاريع مشتركة.
2. فى ظل الظروف المواتية يمكن أن يعود تدويل الأسواق المالية بالفائدة على البنوك الإسلامية . ومهم جدا أن نذكر أن البلدان الإسلامية بحاجة لتحسين أجوائها الاستثمارية وتطوير أسواقها المالية وإصلاح اقتصادياتها . الأمر الذى قد يمكن المؤسسات المالية الإسلامية من نقل المدخرات المحلية والأجنبية للبلدان الإسلامية لتلبية الطلب الكبير على مثل هذه الموارد فى تلك البلدان.
آليات مواجهة التحديات
الإدارة السليمة للمخاطر على ضوء المعايير الدولية.
التكتل والاندماج.
ايجاد النظم القانونية والضريبية المناسبة .
النظم الاشرافية والرقابية المناسبة
تطوير اسواق المال الاسلامية.
التوعية الدولية بالصيرفة الاسلامية.
الاستثمار في مجال الابحاث والتطوير.