تاريخ المصارف الإسلامية:
قبل المحاولات القانونية أو النظامية لإنشاء المصارف الإسلامية قامت عدة تجارب استهدفت إحياء الصيغ الإسلامية في بعض مجالات التمويل، ولعل [أقدمها اختيار السيد عبد الرحمن المهدي في السودان لصيغة المشاركة المتناقصة للحصول- في العشرينات والثلاثينات- على التمويل]( )بدل التمويل المصرفي الربوي.
وبعد هذه التجربة الرائدة رُصِدَت محاولات مماثلة في ماليزية وباكستان في أواسط الأربعينات وأوائل الخمسينات، ولم تُعَمِّر طويلاً( )، وفي عام 1963م بدأت تجربة بنوك الادخار المصرية في ميت غمر، وهي التي كانت نواة لقيام بنك ناصر الاجتماعي( ).
أما على صعيد المصارف الإسلامية - غير الربوية -:
فقد برزت الدعوة لإنشائها في باكستان في أواخر الأربعينيات حين نادى بها محمد نسيم، وأنور قرشي، ونعيم صدقي، وأبو الأعلى المودودي( ).
وتبلورت الفكرة في الستينيات على أيدي اقتصاديين إسلاميين، منهم: محمد نجاة الله صديقي، ومحمد باقر الصدر، ومحمد عبد الله العربي، وعيسى عبده( ).
وأول مصرف إسلامي أُسس كان في مصر سنة 1963، إلا أنَّ هذه التجربة تعرضت لعقبات وعراقيل، فتوقفت الفكرة في ميدان التطبيق العملي( ).
وفي عام 1967 م، قامت مجموعة من الاقتصاديين وأعدت مشروعاً أسمته: النظام الأساسي لبيت التمويل الكويتي، وكان أساس مهمتها: الإعداد والدراسة والدعوة لإقامة البنوك الإسلامية( ).
وفي أوائل السبعينيات، صدر نظام مصرف ناصر الاجتماعي في مصر سنة 1971م( )، بموجب القانون رقم (96)( ).
وفي الأردن تم إنشاء مؤسسة لإدارة وتنمية أموال الأيتام، وذلك في عام 1972، بوسائل لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية( ).
وعقدت مؤتمرات علمية على المستوى الشعبي والحكومي على نطاق العالم الإسلامي، نجم عنها إنشاء البنك -المصرف- الإسلامي للتنمية، وذلك في شهر أغسطس / آب عام 1974، وهو أول مصرف إسلامي حكومي وانطلاقاً من هذه البداية، وتكملة لها، قام الأمير محمد الفيصل آل سعود بالدعوة لإنشاء عدد من المصارف الإسلامية( )حملت اسمه في عدد من الدول الإسلامية، بإضافة اسم الدولة لاسم المصرف، (بنك فيصل الإسلامي - المصري، السوداني، البحريني …).
ثم أُعلِنَ عن نجاح تجربة بيت التمويل الكويت، ومَارسَ عمله في الشهر الثالث من سنة 1977م( ).
وبعد ذلك توالى قيام المصارف الإسلامية في عدد من الدول العربية والإسلامية( )، وكذلك في بعض الدول غير الإسلامية، مثل: إنكلترا ولكسمبورغ( ) وجزر البهاما.
وقد أصبحت هذه المؤسسات الإسلامية والمصارف اللاربوية [من معالم النشاط الاقتصادي العالمي والمحلي على المستوى الجزئي والكلي في الاقتصاد]( ).
[ولقد بلغ عدد المصارف الإسلامية والمؤسسات المالية الإسلامية حتى مايو -أيار- 1997م حوالي 150 مؤسسة مصرفية ومالية، تدير استثمارات تُقَدَّر بحوالي ((75,5 مليار دولار)) غَطَّت قارات آسية وإفريقية وأوربة وأمريكة، وانتشرت في أكثر من 27 دولة]( ).
وقد نجحت المصارف الإسلامية - حسب بيانات صندوق النقد الدولي - في أن تنتشر في (48) بلداً؛ تُمَثِّل ثلث دول العالم الأعضاء في صندوق النقد، وقد خرجت عن إطارها في أسوال الدول الإسلامية، إلى أسواق الدول الأخرى، كما أشارت إحصائيات الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية عام 1998م، إلى النمو السريع للمصار فالإسلامية، خلال عقدين من الزمن، حيث وصل عددها إلى (176) مصرفاً، وتبلغ الأرصدة التي تقوم على إدارتها، ((100 مليار دولار)) ( ).
وقد بلغ عدد المصارف الإسلامية حوالي (240) مصرفاً في إحصاء عام (2000م)، بخلاف العشرات من منافذ المعاملات الإسلامية التابعة للبنوك التقليدية( ).
مصارف إسلامية !! لماذا ؟:
إنَّ المسلم المُعْتَزَّ بدينه، يعمل لدنياه وآخرته، فمفهوم العبادة لديه عمل نافع للدنيا، وعمل مرضي للآخرة، وإنَّ عمل الدنيا بعد بروز ظاهرة التخصص و تقسيم العمل، لا يكتمل في ظروف التقدم العلمي، والتبادل التجاري العالمي إلا بوجود مؤسسات قادرة على تلبية احتياجات المتعاملين داخلياً وخارجياً.
ولما كانت هذه المؤسسات قد ظهرت وتوضَّح عملها في الغرب، وصُدِّرت للدول الإسلامية كما هي عليه لديهم، ربويةً؛ ممحوقة البركة، كان لا بُدَّ للغيورين على دينهم أنْ ينهضوا بأعباء العمل وتحمُّل مسؤولياته ففي التشريع الإسلامي حلولٌ ومقترحات تواكب الحياة مهما تطورت، وتدفع بمسيرة العمل نحو التقدم، بعيداً عن الآثار الضارة التي يُوجدها النظام الربوي؛ اقتصادياً، واجتماعياً ومدنياً، ونفسياً، وأخلاقياً وروحياً.
هذا، وقد أقبل المسلمون على المصارف الإسلامية و تعاملوا معها بثقة وأمان، وحققت المصارف الإسلامية نجاحاً في حقيقتين:
أولاهما: مقدرةُ المصرف الإسلامي على إثبات صلاحية الصيغة الشرعية الإسلامية للتعامل المالي.
ثانيهما: إثباتُ مقدرة الصيغة المصرفية الإسلامية على المنافسة في تقديم مختلف الخدمات المصرفية وبكفاءة عالية.
والأمل معقود على أبناء الأمة الإسلامية أنْ يواصلوا الجهد الأقصى، والعمل المستمر، والسعي الدؤوب؛ لترسيخ فكرة المصارف الإسلامية التي تزيل العوائق الربوية في تقديم القروض، وتشجيع أصحاب الكفاءات والقدرات والطاقات الإنتاجية، ليعم الرخاء وتزدهر حياة المسلمين.
تجارب تحويل المصارف الربوية إلى إسلامية:
يُعَدُّ السودان أولَ دولةٍ مسلمة تعمل على أ سلمة قطاعها المصرفي بأكمله، وقد جاء ذلك بالتدرج، إذ بدأت الدعوة لإقامة مصارف إسلامية منذ عام 1973م، ثم أنشئ في عام 1975م مصرف الادخار السوداني( )، وفي عام 1977م أجيز قانون مصرف فيصل الإسلامي السوداني وباشر أعماله في عام 1978م، تبعه عدة مصارف إسلامية هي: مصرف التضامن الإسلامي( )، والمصرف الإسلامي السوداني، ومصرف التنمية التعاوني الإسلامي، ومصرف الغرب الإسلامي، ومصرف البركة، وفي شهر ديسمبر 1984م أعلن مصرف السودان المركزي أسلمة جميع المصارف القائمة في السودان، سودانية كانت أم أجنبية، وتم هذا بالفعل في عام 1985م، وشمل خمسة مصارف متخصصة، وستة مصارف أجنبية، وأحد عشر مصرفاً مشتركاً( ).
[وقد تمكَّن المصرف المركزي السوداني في عام 2000م، من إصدار شهادات مشاركة المصرف المركزي ((شمم))، وشهادات المشاركة الحكومة ((شهامة))، كأدوات مالية إسلامية، تُمَكِّن المصرف المركزي من السيطرة على السيولة وإدارتها؛ لتحقيق السياسة النقدية المستهدفة في البلاد، وتقوم فكرة الإصدار على المبدأ الإسلامي: "الغنم بالغرم"، بدلاً من الفوائد الربوية.
فشهادة مشاركة المصرف المركزي تهتم بإدارة السيولة داخل الجهاز المصرفي، ويتم بيع الشهادات عندما يرغب مصرف السودان في تخفيض السيولة، ويتم شراؤها عندما يراد زيادة السيولة، وحصيلة البيع لا يستغلها المصرف، ولكنها تُسحَب من النظام، ويتم تجميدها.
وتتحقق أرباح حاملي شهادات مشاركة المصرف المركزي ((شمم)) فقط عند بيعها، فهذه الأرباح ذات طبيعة رأسمالية Capital Gains وليست أرباحاً نقدية Dividends تُدفَع بنهاية السنة المالية.
والتداول في شهادات ((شمم)) بيعاً وشراءً: يتم عن طريق العطاءات، غير أن لحامل شهادات ((شمم)) أن يبيعها خارج المزاد لمصرف السودان، أو لغيره لحاجته للسيولة.
أما حصيلة بيع شهادات مشاركة الحكومة ((شهامة))، والتي تُعنَى بإدارة السيولة على مستوى الاقتصاد الكلي؛ فيعاد تدويرها وضخها في الاقتصاد القومي؛ بواسطة وزارة المالية، عندمت تقوم بالإنفاق على مشاريع جديدة، أو لمشروعات قائمة] ( ).
وفي إيران بدأت أسلمة المصارف في شهر فبراير (شباط) 1981م، بوضع نظام رسوم خدمة على الأصول لا تتعدى 4%، وفئات أرباح تتراوح بين 4% و8%، كما وضعت حداً أدنى كهامش أرباح للودائع المختلفة، وفي شهر أغسطس 1983م صدر قانون المصارف اللاربوية( ) الذي يحدد فترة سنة وثلاثة أشهر من 1/1/1984م إلى 31/3/1985م، لإنهاء جميع المعاملات الربوية( ).
وفي باكستان، بدأت إجراءات أسلمة المصارف في أول عام 1981م، بالسماح للمصارف العاملة بقبول ودائع الناس على أساس المشاركة في الربح والخسارة مع استثناءات محدودة، وتمت الأسلمة الكاملة للمصارف في عام 1985م، بتعميمٍ شاملٍ لنظام المشاركة (المضاربة)( ).
[وتتجه باكستان إلى تطبيق قانون إسلامي يمنع الفوائد الربوية في جميع المؤسسات المالية والمصرفية العاملة في البلاد بحلول يوليو 2001م.
وقد أعلنت الحكومة الباكستانية مؤخرًا عن قرار يقضي بتعميم التحول الكامل نحو النظام المصرفي الإسلامي، وإلزام جميع مؤسسات التمويل المحلية والشركات المالية بالامتناع عن المعاملات الربوية، وحددت المحكمة الدستورية العليا في باكستان مهلة أربعة أشهر لترتب ولتكيف جميع المصارف والمؤسسات المالية أوضاعها للتعامل بالصيغ الإسلامية؛ حيث يبدأ تطبيق القرار ابتداء من أول يوليو القادم (2001) كحد أدنى.
وهناك اتجاه من عدد من المصارف التقليدية إلى التحول إلى مصارف إسلامية؛ حيث بدأ مصرف الجزيرة السعودي إجراءات التحول إلى مصرف إسلامي، بعد نجاح عملياته الاستثمارية الإسلامية، وتلبيةً لرغبة عملائه في إتمام المعاملات بما يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية، وحديثًا أعلن بنك الشارقة الوطني رغبته الأكيدة في التحول إلى مصرف إسلامي.
أما صعيد الدول، فهناك دول مثل السعودية والبحرين والإمارات ومصر والكويت؛ تسمح بوجود النظامين المصرفيين، جنبًا إلى جنب، الإسلامي والربوي، دون أن تلزم قانونًا بإجراء المعاملات المالية على أساس تحكمه الشريعة الإسلامية.
وهناك مصارف عالمية عريقة تقدم خدمات مصرفية إسلامية، مثل: مجموعة "هونغ كونغ شنغهاي" المصرفية (إتش. إس. بي. سي) و"شيس مانهاتن سيتي بنك"، وكذلك مصارف إقليمية ومحلية مرموقة، مثل: البنك الأهلي التجاري السعودي، والبنك السعودي الهولندي، و"ميي بنك" الماليزي - أبرز المؤسسات المالية التقليدية التي ارتادت مجال الصيرفة الإسلامية - وهناك مصارف تقليدية تستعد للتحول، مثال ذلك: بنك الجزيرة السعودي، وبنك الشارقة الوطني بالإمارات] ( ).
والمسلمون يتطلعون إلى يوم يتحقق فيه تعميم فكرة المصارف الإسلامية لتأكيد دعم التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي وفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية، وما ذلك على الله بعزيز.
وإلى لقاء قادم للحديث عن أنشطة المصارف الإسلامية.
المصدر: موقع الأستاذ الدكتور علاء الدين الزعتري
http://www.alzatari.org/show_art_details.php?id=631