المطلب الرابع: النظرية المعاصرة لتفسير التضخم
أعادت مدرسة شيكاغو بزعامة " ميلتون فريدمان " النظرية الكمية الى الحياة في صورة جديدة، وانتشار هذه النظرية في الواقع لا يرجع فقط الى مساهمات "فريدمان" في هذه الصياغة الجديدة، بل أيضا الى المناخ الاقتصادي الذي ساد اقتصاديات الدول الرأسمالية في السبعينات، وخاصة انتشار ظاهرة التضخم الركودي حيث صاحب الارتفاع المتواصل للأسعار تزايد معدلات البطالة، وهو ما يناقض منحنى "فليبس".
تنظر هذه النظرية الى التضخم على أنه ظاهرة نقدية بحتة، وان مصدره هو نمو كمية النقود بسرعة أكبر من الانتاج، ويتصور "فريدمان" أن التغير في كمية النقود يدعمه تغير في سرعة دورانها في نفس الاتجاه، وينعكس اجمالي أثر التغير في كمية النقود وسرعة دورانها في أحداث تغير في كل من الناتج الوطني والأسعار بنسب متفاوتة. ونخلص من هذا أن مصدر الارتفاع التضخمي في النظرية المعاصرة لكمية النقود، يرجع الى زيادة الرصيد النقدي في المجتمع عن "الحجم الأمثل" الذي يحقق الاستقرار في المستوى العام للأسعار.
ان المعدل الأمثل للتغير في كمية النقود هو ذلك المعدل الذي يقابل التغير في كل من الناتج الوطني والتغير في سرعة دوران النقود.(
المبحث الثاني: التضخم، أنواعه، أسبابه وأثاره
للتضخم عدة أنواع كما له عدة أسباب وأثار ، وسنتعرف على كل واحدة من خلال هذا المبحث.
المطلب الأول: أنواع التضخم
يمكننا الاعتماد على عدد كبير من المعايير والأسس للتمييز بين الأنواع المتعددة والمختلفة للتضخم ومنها:
1. التضخم الطليق (المكشوف): يتسم هذا النوع من التضخم في ارتفاع واضح في الأسعار دون تدخل من قبل السلطات الحكومية للحد من هذه الارتفاعات أو التأثير فيها، حيث تتجلى مواقف هذه السلطات بالسلبية،مما يؤدي الى تفشي هذه الظاهرة التضخمية، والتسارع في تراكمها فترتفع المستويات العامة للأسعار بنسبة أكبر من زيادة التداول النقدي للكميات النقدية المعروضة.
2. التضخم المقيد (المكبوت): يتجلى هذا النوع من التضخم بالتدخل من قبل السلطات الحكومية في سير حركات الأثمان، فتحدد الدولة المستويات العليا للأسعار حتى تتعدى الحد الأقصى من ارتفاعاتها، فدور الدولة هنا يتمثل في منع استمرارية الارتفاعات السعرية واستفحالها، اذ أن الظواهر التضخمية تبقى موجودة، والدولة بتدخلها لا تقض عليها ، وانما يكون هدفها هو الحد من حركات الاتجاهات التضخمية المتفشية، بصفة مؤقتة، ومن ثم الحد من استفحال آثارها في المجتمع، عن طريق اجراءات متعددة مثل تجميد الأسعار لمنعها من الارتفاع، الرقابة على الصرف، تثبيت أسعار الفائدة الخ.
3. التضخم الزاحف: هو الارتفاع المتواصل للأسعار الذي يحدث على مدى فترة طويلة من الزمن نسبيا، أي أن هذا الارتفاع يكون بطيئا وفي حدود 2 % سنويا.
4. التضخم الجامع: هو أشد أنواع التضخم آثارا وضررا على الاقتصاد الوطني، حيث تتوالى ارتفاعات الأسعار دون توقف، وبسرعة قد تصل الى 50 % سنويا أو أكثر، فتفقد النقود قوتها الشرائية وقيمتها كوسيط للتبادل ومخزن للقيم، مما يدفع بالسلطات الحكومية الى التخفيض من قيمتها وما يصحب ذلك من آثار سلبية على بعض النتعاملين الاقتصاديين أو التخلص منها باٍبدالها بعملة جديدة.
المطلب الثاني: أسباب التضخم
بمقتضى التحليل الكينزي فاٍن الطلب الكلي الفعال يعتبر عاملا رئيسيا في تحديد مستويات العمالة، الدخل، والانتاج. وفي حالة التضخم يعبر عن الخلل في التوازن باٍرتفاع الطلب الكلي عن العرض الكلي أو باٍنخفاض العرض الكلي عن مستوى التشغيل الكامل.
أولا: العوامل الدافعة بالطلب الكلي الى الارتفاع
يمكن ارجاع تلك الدوافع الى ما يلي:
1. زيادة الانفاق الاستهلاكي والاستثماري: ان النظريات الخاصة بالتوازن، والخاصة بالعرض والطلب الكلي وجهاز الأثمان تفترض اقتران الخلل في التوازن بالزيادة في الانفاق الكلي عن مستوى التشغيل الكامل، ويتمثل في زيادة الطلب الكلي عن العرض الكلي، وعند هذا المستوى يحدث التضخم، والمتمثل في الزيادة في الانفاق الكلي الذي تقابلها زيادة مماثلة في المنتجات والسلع المعروضة، على فرض الوصول الى حجم التشغيل الكام، وبالتالي فاٍن حجم الانفاق الكلي هو الحاسم كسبب من أسباب التضخم.
2. التوسع في فتح الاعتمادات من قبل المصارف: ان توسع البنوك التجارية في منح الائتمان والاعتمادات، يعتبر عاملا مهما في تزويد الأسواق بمبالغ نقدية كبيرة، فقد ترغب الدولة في تنشيط الأعمال العامة وزيادة الانتاج، فتشجع المصارف على فتح عمليات الائتمان بوسائلها المعروفة كتخفيض سعر الفائدة. فيزيد اقبال رجال الأعمال على الاستثمار، وهذا بدوره يؤدي الى ارتفاع الأسعار منبئا عن ظاهرة تضخمية كان سببها الأول والاعتمادات التي فتحتها المصارف للمنتجين.
3. العجز في الميزانية: تعتبر هذه الطريقة سهلة تلجأ اليها الحكومات والدول من أجل تمويل مشروعاتها الانتاجية وتشغيل العناصر الانتاجية المعطلة في المجتمع. والعجز في الميزانية لا يحدث صدفة بقدر ما تتعمد الدول احداثه، لتمويل خطط تمويلية تنوي الحكومة القيام بها، فتلجأ الى توفير النفقات الضرورية اللازمة لها بوسائل كثيرة. ويقصد باٍجداث عجز في الميزانية هو زيادة النفقات العامة عن الايرادات العامة بالقدر الذي تقترضه الحكومة من البنك المركزي.
وان عجز الميزانية هو وسيلة متعمدة تلجأ اليها الحكومة وهي على علم بآثارها السيئة، ومن قبيل الاقتراض أن ذلك في سبيل انعاش الحركة الاقتصادية، وتوفير رواج الأشغال وتنفيذ برامجها المدنية والعسكرية هذا في حالة ما قبل مستوى التشغيل الكامل. أما اذا كانت جميع العناصر الانتاجية مشتغلة، فاٍن النفقات العامة في هذه الحالة لا تجد لها منفذ سليما وتكون في هذه الحالة سببا في ارتفاع الأسعار، والتي كانت كنتيجة لعدم التوازن ما بين فيض النقد المتداول المتمثل باٍزدياد الانفاق العام، والمعروض السلعي.
4. تمويل العمليات الحربية: تعتبر الحروب من الأسباب المنشأة للتضخم لما يتخللها من نفقات عامة كبيرة، ففي هذه الحالة اذا ما رأت الدولة أن قدرتها المالية قد ضعفت، تلجأ الى أقرب الموارد وهي آلة الاصدار لتمدها بالمال اللازم، والحقيقة أن الحاجة الى المال تبدأ قبل اندلاع الحرب للاستعداد لها، وأثناء الحرب لتسيير أمور البلاد، وكذلك ما بعد الحرب لمعالجة ما خلفته الحرب من ويلات تنصب معظمها على الاقتصاد.
5. الارتفاع في معدلات الأجور: السبب المباشر والفعال في ارتفاع معدلات الأجور، ونفقات المعيشة يكمن في صلب الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية ذاتها التي تسمح بجرية النقابة العمالية واعطائها حق التكاليف الانتاجية مما يخفض من معدلات الأرباح عند مستوى التشغيل الكامل ويمكن تجاوز هذه المشكلة باٍقتراح الحكومة للحلول التالية:
الاتفاق مع الاتحادات العمالية على عدم المطالبة بزيادة الأجور لفترة زمنية محددة.
الاتفاق مع الاتحادات العمالية على المطالبة بزيادات في الأجور بنسبة تتعادل مع نسبة الزيادة في انتاجيتهم محافظة على استقرار ولو نسبي للأسعار.
6. التوقعات والوضاع النفسية: قد يرجع الارتفاع في الطلب الكلي الفعال الى عوامل نفسية وتقديرية أكثر من عوامل اقتصادية، فكثيرا ما يكون للحالات النفسية للأفراد الأثر الكبير في نشوء بعض الظواهر التضخمية ولعل أفضل الحالات التي يكون فيها للظروف النفسية آثارها الفعالة هي فترات الحروب حيث تكون الظروف مهيأة لتقبل الأقاويل والتنبؤات بارتفاع الأسعار مستقبلا الذي يزيد من حركة النشاط والانتعاش، وفي قطاع الاستثمار يترتب على التنبؤ بارتفاع الأسعار، اقدام المنتجين على تجنيد أصولهم الحالية للحصول على معدلات أكبر من الأرباح، فترتفع الكفاية الحدية لرأس المال المستثمر، مما يزيد من حدة الاتفاع الطلب الكلي الفعال والعكس عند التنبؤ بانخفاض الأسعار.
ثانيا: العوامل الدافعة بالعرض الكلي نحو الانخفاض
يمكن ارجاع هذه العوامل الى:
1. تحقيق مرحلة الاستخدام التام: قد يصل الاقتصاد الوطني لمرحلة من الاستخدام والتشغيل الكامل والتام لجميع العناصر الانتاجية بحيث يعجز الجهاز الانتاجي عن كفاية متطلبات الطلب الكلي المرتفع عن ذلك المستوى بحيث يبقى الجهاز الانتاجي عاجزا، عن دون المستوى المرتفع للطلب الكلي.
2. عدم كفاية الجهاز الانتاجي: قد يتصف الجهاز الانتاجي بعدم المرونة والكفاية في تزويد السوق بالمنتجات والسلع الضرورية ذات الطلب المرتفع، وقد يعود عدم المرونة الى نقص الفن الانتاجي المستخدم في العمليات الانتاجية، وقد تكون الأساليب المتبعة قديمة، ولا تفي بمتطلبات الأسواق الحديثة. قد يكون النقص في العناصر الانتاجية كالعمال، والموظفين المختصين والمواد الأولية.
3. النقص في رأس المال العيني: قد يعود عدم المرونة للجهاز الانتاجي الى نقص في رأس المال العيني المستخدم عند مستوى التشغيل الكامل، مما يباعد ما بين النقد المتداول، وبين المعروض من السلع، والمنتجات والثروات المتمثلة في العرض الكلي المتناقص، وبالتالي ظهور التضخم كمؤشر على وجود الخلل التوازني في الأسواق المحلية الذي يعبر عن النقص في العرض الانتاجي.(9)