قراءة في حل المشكلة الاقتصادية في الفكر الإسلامي
قراءة في حل المشكلة الاقتصادية في الفكر الإسلامي
علاء الدين زعتري
أمين الفتوى ـ وزارة الأوقاف
إن أهم قضية في الحل الإسلامي أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد أراد السمو بالإنسان، من طغيان الأنانية بالركون إلى الماديات، وذلك عبر هدف الإسلام بتحقيق التوازن بين متطلبات الروح وحاجات الجسد؛ لضمان حياة سليمة متحضرة.
وإليك قراءة في حل المشكلة الاقتصادية (ندرة الموارد نسبياً، وتزايد الحاجات إطراداً)، في الفكر الاقتصادي وفق منظومة من المبادئ:
1- مبدأ العلم:
يُعَدُّ العلم من أهم مبادئ حل المشكلة الاقتصادية، والمراد بالعلم هنا هو العلم القائم على التفكر واستخدام العقل، ويشمل العلم التخصصي في شتى شؤون المعرفة ومجالات الحياة.
قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ] ( ).
تأمل في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ]، أي: ألم تعلم.
[أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً]، وفي هذا إشارة إلى العلوم الفلكية وصلة السماء بالأرض.
[مَاءً] وفي هذا إشارة إلى علم الأمطار والمياه، وحركتها ودوارنها وتقلبها من الأرض وإلى الأرض، عبر لتخبر ثم العودة.
ثم قال: فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا، وفي هذا إشارة إلى علم النبات وما يتعلق به.
ثم قال: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وفي هذا إشارة إلى علم طبقات الأرض، ومايتصل به.
ثم قال: وَمِنَ النَّاسِ]، وفي هذا إشارة إلى علم الإنسان وسلوكه، ومعرفة الأجناس والأعراق، وما يسمى بعلم الأنثربيولوجيا.
[وَالدَّوَابِّ]، وفي هذا إشارة إلى علم النقل، على اختلاف صوره وأشكاله، تبعاً للزمان والمكان؛ من وسائل برية وبحرية وجوية.
[وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ، وفي هذا إشارة إلى علم الحيوان، ومدى الاستفادة منه في خدمة الإنسان.
وفي المجمل في هذه الاية إشارة إلى علم الحياة والأحياء، ودراسة الكائنات الحية على اختلافها.
ثم ختم الله الآية بقوله: كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ].
وفي هذا إشارة إلى أن العلماء هنا، هم العلماء بالكون وآياته، ودقائقه وأسراره، لا علماء الشريعة والفقه والتفسير والحديث فحسب.
ولقد طلب الله عزَّ وجلَّ من المؤمنين أن يطلبوا منه المزيد من العلم، وليس الزيادة العددية الرقمية، فشأن المؤمن أن يقول: [وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا] ( )، أما طلب الزيادة العددية فهو لجهنم، [يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ؟، وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ] ( ).
فمزيد العلم، وطلب الازدياد منه بتوفيق من الله، يدفع الإنسان إلى مزيد من اكتشافات مكنون الأرض ومخزونها الطبيعي، ومعرفة ثرواتها، وتطويع ما فيها خدمة للإنسان الفرد وسعادته، وسعادة مَن حوله، فالإنسان هو محور عملية التنمية.
وليس المراد من العلم حشد الذاكرة ببعض النظريات والمعلومات، ولكنه الفهم والهضم والوعي والإدراك، ولهذا يذكر القرآنُ العقلَ والتفكر في معرض الامتنان بهذه النعم والثروات، يقول الله تعالى: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] ( )، ويقول تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( ).
وفقهاء المسلمين يقررون أن كل علم تحتاج إليه الأمة في دينها- الدنيا والآخرة - فإن تعلمه وإتقانه فرض كفاية.
وقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لاَ يَبِعْ فِي سُوقِنَا إِلاَ مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ ( ).
2- مبدأ العمل:
بالمستطاع والممكن، وبذل الجهد العضلي والفكري للوصول إلى أفضل نتائج العلوم، من المخترعات الحديثة، والتقنية الجديدة، ومكافحة العطالة والبطالة، والخمول والكسل.
فالعلم لا يُؤتي أُكُله ما لم يتبعه عمل به، بل عمل دائب متواصل لاستخراج الخبايا، والانتفاع بالثروات، واستكشاف الموارد، للأكل من رزق الله.
قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ( ).
ولا يدعي أحد أنه ترك العمل بحجة العبادة، فللعبادة وقتها، وللعمل وقته، ففي يوم الجمعة، بيع وعمل قبل العبادة المفروضة، وانتشار في الأرض عملاً بعد العبادة، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( ).
والعمل هو: كل مجهود واعٍ يبذله الإنسان ؛ بدنياً أو عقلياً، للاستفادة من الموارد لمنفعته، سواء أكان العامل يعمل لنفسه أم يعمل لغيره بأجر، أياً كان هذا الغير، فرداً أم مؤسسة أم حكومة، وسواء أكان شريكاً بجهده وخبرته، وسواء أكان عمله في مجال الزراعة أم الصناعة أم التجارة، أو غيرها من الحِرَف، عالية أم دانية، يسيرة أم شاقة، تدرُّ الوفير من الدخل، أم لاتدر إلا القليل، أو الأقل من القليل.
ومع أن الله عز وجل قد تكفَّل بالرزق لكل كائن حي، بقوله: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ( ) إلا أن سنة الله وحكمته في خلقه اقتضت ألا يُنالَ رزق أحد إلا بسعي وعمل، ومشي في مناكب الأرض لابتغاء فضل الله فيها.
هذا، وإن العمل ليس مهماً لمعيشة الإنسان الفردية فقط، بل لمصلحة لجماعة كلها، وانتظام الحياة الإنسانية بأجمعها.
فعلى المؤمن أن يعمل لنفسه أولاً، ليقوتها، ويغنيها بالحلال، ويعفّ نفسه من ذلّ السؤال والحاجة إلى الآخرين.
وأن يعمل لأسرته ثانياً، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثماً أن يضيّع مَن يقوت"( )، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه"( ).
وأن يعمل لصالح مجتمعه ثالثاً: كون المجتمع هو الدائرة الأوسع لأسرته، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( ).
وأن يعمل لخير البشرية رابعاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخَلْقُ كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله"( ).
ومما يروى أن رجلاً مرّ على الصحابي أبي الدرداء - رضي الله عنه -، فوجده يغرس جوزة، وهو في شيخوخته وهرمه، فقال له: أتغرس هذه الجوزة وأنت شيخ كبير، وهي لاتثمر إلا بعد كذا وكذا عام؟ فقال أبو الدرداء: وماعليّ أن يكون لي أجرها، ويأكل منها غيري( ). هذا هو فقه المسلم للحياة.
وأن يعمل خامساً لنفع الأحياء كل الأحياء، حتى الحيوان والطير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مامن مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة"( ).
قال الله تعالى: [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] ( )، أي: طلب منكم عمارتها، فالأرض يرثها عباد الله الصالحون لعمارتها، وهذا ما يفسر تناقل الحضارات من أمة لأمة.
ولا يتأخر المؤمن عن أداء العمل ما دام قد أذن فيه الشرع، بعيداً عن كون العمل يدر ربحاً كثيراً أو قليلاً، أو عملاً محبوباً منالجميع أو غير محبوب، وقد كان الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم أجمعين، يعملون ويشاركون الناس في مهامهم الدنيوية، فـ(آدم) عليه السلام عمل مزارعاً وراعياً للأغنام، و(نوح) عليه السلام عمل نجاراً، ونبي الله (إدريس) عليه السلام عمل خياطاً، وأبو الأنبياء (إبراهيم) عليه السلام، وولده (إسماعيل) بنيا الكعبة بأنفسهما، بالإضافة إلى نبي سليمان (الملك الحاكم)، و(يوسف) عليه السلام وزير المالية، ونبينا (محمد) صلى الله عليه وسلم عمل راعياً للغنم، وتاجراً شريكاً مضارباً بمال زوجته خديجة رضي الله عنها.
وشجع النبي صلى الله عليه وسلم على العمل ونهى عن البطالة والكسل، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ"( ).
3- مبدأ الاتقان والإحسان في أداء الأعمال:
وهذا مما نسيع عملياً كثير من المسلمين، رغم كونه يعد من الفرائض المكتوبة، ففي الحديث الصحيح يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، وليُرِح ذبيحَتَه"( ).
ومعلوم أن لفظ (كتب) يفيد الفرضية المؤكدة، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ).
فلا يجوز التفريط في إتقان العمل، ولا يجوز التقصير في أداء الواجبات ولا الإهمال في فعل المطلوبات، وإلا وقع المفرط والمقصر والمهمل في مخالفة شرعية، تستوجب عقوبة من الله على خيانة الأمانة، وتستوجب مسؤولية في الدنيا.
وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"( )، وفي رواية: "إن الله يحب من العامل إذا ما عمل أن يحسن"( ).
ولا يكتفي الإسلام بطلب العمل الحسن، بل يأمر به، حتى في المال الذي يكون للأضعف، فالقوي والكبير يحاسبك ويتابع نتائج الأعمال، أما الصغير واليتيم، فقد قال تعالى محذراً أولئك الذين يتعاملون مع مال اليتيم استثماراً وتنمية: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ).
ورقيب الإتقان والإحسان في العمل هو شعور المؤمن في كل عمل من الأعمال، بأنه يرى الله، فإن لم يبلغ هذه المرتبة فأقل ما عليه أن يشعر أن الله يراه، وفي الحديث: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"( ).
والعمل من العبادة، وشعار المؤمن في أدائه للعمل: إني أُرضِي الله.
قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( ).
ومما يساعد على جودة العمل، وحسن الإنتاج: الأمانة والإخلاص والمحافظة على الوقت والاستقامة.
4- مبدأ الاستقامة:
فالمؤمن الصادق الإيمان يقف عند حدود الله، وينتهي عما نهاه، ويبتعد عن ارتكاب الموبقات ويجتنب الانغماس في أوحال المحرمات، ويكبح جماح الشهوات.
فإيمانه يأبى عليه أن يُفْرِغ طاقته في سهر عابث أو لهو حرام، وإيمانه يمنعه من الجري وراء قدح يفور بالخمر، أو مائدة تدور بالقمار، أو جسد يمور بالفتنة.
وبذلك يظل محتفظاً بحيويته وطاقته الجسدية والعصبية والعقلية والنفسية، فلا يصرفها إلا في العمل الصالح، أو مما يعين عليه من لهو مباح بريء.
وهذا كسب كبير للإنتاجية.